ترافق مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية الطلاب منذ سنوات تعلمهم الأولى، فهي المادة التي تهدف إلى توعية الفرد على حقوقه وواجباته الإنسانية وإلى معرفة الذات وكيفية تعامله مع الآخرين، وإلى تأهيله ليتمكّن من فهم قضاياه ويصبح إنساناً مسوؤلاً له دور فاعل في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.هذه العناوين وغيرها مما تحتويه أهداف تعليم مادة التربية هي الأهم منذ النشأة وحتى الكهولة، وهي المادة التي يفترض أن ترافق نموّنا البيولوجي والنفسي والعقلي والفكري خلال سنوات التحصيل العلمي وخلال حياتنا اليومية كدليل حياة يتطوّر ويكبر وفقاً لمراحل حياتنا.
لماذا يعاني معظم الطلاب من تقبّل مادة التربية المدنية؟
تحتوي مادة التربية في جميع مراحل التعليم (من الأساسي إلى الثانوي)، على كمّ هائل من المعلومات القانونية والتي تُقدّم إلى الطالب بأسلوب تلقيني يجهد الأساتذة لإيصال المحتوى إلى الطلاب بشكله النظري نتيجة بُعد الواقع عن معظم ما يرِد في فصول هذه المادة. وإن أجرينا إحصاءً سريعاً ضمن محيطنا الشخصي وسألنا أطفالنا حول مقرر التربية المدنية فسيكون جواب 90% منهم أنه مملّ وغير محبوب، وفي أغلب الأحيان يكون أستاذ المادة هو السبب.
تستند معلومات المادة إلى القوانين لفهمها، والقوانين عامة هي نصوص جامدة جافة تتضمّن مصطلحات معقّدة قد لا يستسيغها الطالب في مراحل التدريس كافة، ويقدّمها العدد الأكبر من الأساتذة، غير المدرّبين بغالبيتهم على تدريسها، بأسلوب تلقيني يعتمد الحفظ الببّغائي في معظم الأحيان بحجة تأمين العلامة المطلوبة للنجاح، ما يزيد من تعقيدات هذه المادة «العبء» على الطالب والأهل.
حاول العديد من التربويين والمعنيين تطوير المناهج ووضع الإصبع على إشكاليات محتوى هذه المادة، بدءاً من منهاجها وأساليب تعليمها وصولاً إلى الغاية التي وُضعت من أجلها، محاولين معرفة كيفية تحويلها من مادة ثانوية مطلوب حفظها، لتعديل ميزان درجات النجاح في نهاية العام الدراسي، إلى مادة مركزية مشوّقة ممتعة مرتبطة بالحياة اليومية للفرد، يساهم تقييمها في تعديل ميزان الحياة، وتصبح المدخل الفعلي لتشكيل المواطن ومفهوم المواطنة. تجدر الإشارة إلى أن تعديل وتطوير محتوى المادة، وفقاً لرأي العديد من التربويين، لا يكفي لتحقيق الأهداف المطلوبة منها، لأن مدرس المادة سيشرحها ويُفسّر ما يرد فيها من مفاهيم وفقاً لنظرته ولخلفيته الفكرية. فهل نحن متفقون على تعريف مفهوم الحرية مثلاً، أو متفقون على تعريف المواطن، ومعنى الانتماء، وحق الشعوب في المقاومة، ومن هو العدوّ ومن هو الصديق.
عناوين عدة تطرحها هذه المادة، قد تفجّر أي نقاش مع أصحاب الاختصاص والأكاديميين، فكيف ستُناقش مع طلاب من خلفيات مختلفة مع مدرّس قد لا يمتلك خلفية ثقافية في الشأن السياسي أو ثقافة قانونية وسياسية بحدها الأدنى ليتمكن من خوض هكذا نقاشات، وخاصة مع طلاب المرحلة الثانوية.
لا يمكن إغفال أهمية إعداد المعلّمين، وأن يكون لديهم مفهوم شامل لخصائص الطلاب وللفروقات الفردية، كذلك لـ«جنوح الأحداث» والانحراف الذي ينطوي على مخالفات عدة قد تشمل القيَم الأخلاقية والوطنية. وعليه، فإن التربية هي فنّ صُنع الإنسان، وإن كل مادة تعليمية معنية بالتربية المدنية وبتحقيق أهدافها، فمدرّس مادة الرياضيات، مثلاً، عليه أن يؤهل طلابه تربوياً ليتمكنوا من امتلاك مهارة التفكير المنطقي في حياتهم الذي يقيهم الانخراط في سلوكيات متهورة. وهذا المثال يبيّن مدى أهمية أن يكون المعلم مثقفاً وأن يتخطى دوره مهمة تعليم المادة وفقاً لمحتواها الأكاديمي حصراً، فكيف الحال إذاً مع مدرّس مادة التربية المدنية المسؤول عن تعليم مقرر يتضمن أسس بناء الإنسان الذي معه تُبنى الحضارات.

محتوى مادة التربية المدنية
يركّز محتوى مادة التربية خلال المرحلة الابتدائية على السلوكيات والأدبيات العامة والتي يجب أن تُقدّم للطالب بعيداً عن الأساليب التلقينية. لأنه من المفترض أن الطالب يرى هذه السلوكيات ويعيشها ضمن بيئته الصغيرة بين البيت والمدرسة. فالطفل يتعلّم من خلال القدوة، وهو يقلّد ما يراه أكثر ممّا يسمعه ويحفظه.
في هذه المرحلة، يشكّل دور الأسرة مع دور المدرسة تكاملاً عضوياً في العملية التربوية لا يمكن فك الارتباط بينهما للوصول إلى تحقّق الأهداف التربوية، ومكافحة الانحراف وجرائم العنف والتعصّب والتطرّف لدى الطلاب. فالعائلة لا تطلب من الطفل حفظ السلوكيات وتحليل خلفيتها، بل تطبيقها وممارستها، بهدف اكتسابها مسلكياً، على قاعدة أن جزءاً كبيراً من سلوكيات الإنسان مكتسبة بالتعوّد. ولذلك، نرى أن المؤسسة الدينية والأُسر المتديّنة تحثّ أطفالها على أداء الطقوس الدينية والالتزام بها من عمر مبكر بهدف تدريبهم عليها، كالصلاة والصوم وغير ذلك، لأن الطفل في مراحل عمرية مبكرة لا يمكنه الغوص بماهية الأفكار المجردة والمعقدة إلا بما يتوافق مع نموّه المعرفي.
من هنا، يفترض أن يكون الهدف من التربية المواطنيّة والتنشئة المدنية صناعة جيل ملتزم بالقيم الإنسانية والأخلاقية والوطنية، الأمر الذي لا يتعارض مع انتماءاته الثانوية الدينية والثقافية، ولكنه يعني أن يكون الولاء للوطن وللحضارة الإنسانية هو الدافع والمحرك للطالب وليس ولاءاته الجزئية الضيّقة، كي نصل إلى جيل يربي أولاده لاحقاً على نفس القيم والمبادئ التي تضمن بناء وطن أكثر عدالة وإنسانية.
لا داعي لسرد محتوى المادة بمحاورها العصيّة على الفهم من حيث اختيار العناوين وطريقة توزيعها وفقاً للفئات العمرية، فما هي الأسس التي اعتُمدت لوضع درس عن الأمم المتحدة وطرق انتخابها وتشكّلها في الصف التاسع، أي لطلاب بعمر 13 عاماً؟ وما هي الأسس التي اعتمدها واضعو المنهج لحشو كتاب الأول ثانوي بمحاور تتضمّن عناوين لقضايا مهمة يُفترض أن تُوزّع على المراحل الثانوية الثلاث، ومن هذه العناوين: حقوق المواطن وواجباته ومسؤولياته السياسية، حماية حقوق الإنسان على الصعيدين الدولي والإقليمي، تنظيم الأسرة، النزاعات بين الأفراد وفي المجتمع، الملكيات والمرافق العامة، المشكلات الأساسية في العالم: فقر وجوع، سيدا ومخدرات، تلوث البيئة، التعصّب، العنف والحروب، التنازع على الطاقة والمياه..
فهل بإمكان أساتذة المادة أن يقدّموا في سنة دراسية واحدة كل هذه العناوين وتحقيق كامل الكفايات المطلوبة في كل محور؟

المهمة المستحيلة
أمام أساتذة مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية مهمة تعجيزية في تدريس المحتوى، كونها مادة منفصلة عن الواقع وعصيّة على الفهم حتى لبعض الأساتذة الذين هم أبناء هذا الكيان. على سبيل المثال، في المحور الثالث من كتاب الصف التاسع، عنوان يتحدث عن «علاقة المواطن بالإدارة العامة»، يشكّل هذا العنوان عقوبة للمدرّس وللطالب، في هذا العمر تحديداً، إذ لا يحتك بأي إدارة ولا يستطيع فهم أي مسار من مساراتها مهما كان بسيطاً. فكيف يُطلب من طالب بعمر 13 عاماً أن يعرف كيف تُنجز أي معاملة وماهية الإنفاق العام وكيف يُراقب؟ وكيف بإمكان أستاذ المادة أن يقرّب هذا الدرس إلى فكر الطالب؟
إن أي مادة تعليمية لا تحقق الأهداف المرجوّة منها لا قيمة لها، ولا بد من أن يواكب محتوى المادة تغيّر المجتمع وتبدّله


يطرح المحور السادس من الكتاب نفسه موضوع الهوية العربية ومقوماتها، كيف سيشرح أساتذة المادة هذا المحور، في الوقت الراهن، لهذه الفئة العمرية بالذات التي باتت بعيدة كل البعد عن هويتها العربية. إن لم يمتلك المدرّس حداً أدنى من المعرفة السياسية والقانونية ليتمكن من شرح الدرس من دون متاريس، فلن يتمكن من تحقيق أي نتائج، فهل تُلغي محاور الواقع محاور كتاب التربية، أم على كتاب التربية أن يلغي محاور الواقع؟ أم أن الحل بالحفظ الببّغائي و«يا دار ما دخلك شرّ»؟
أليس الحديث عن تقبّل الآخر وقبول الاختلاف ونبذ ورفض العنصرية، والتمسّك بالعادات والقيَم الاجتماعية والحفاظ على العائلة، هي عناوين قد تؤسس لمواطن فعلي حقيقي يعرف ماهية هويته على أرض الواقع والممارسة عوضاً عن تلقينه عناوين لا وجود لها؟

تقييم المادة
إذا أردنا تقييم مادة التربية المدنية في مدارسنا لمعرفة مدى تحقّق الأهداف المرجوّة منها، نجد أن هذه المادة كانت من ضمن المواد التي استُغنيَ عنها خلال فترة جائحة كورونا والتعليم عن بُعد في معظم المدارس وأوّلها المدرسة الرسمية الوطنية. كما وُضعت ضمن المواد الاختيارية في الشهادة الرسمية باعتبار أنها مادة غير أساسية بإمكان الطالب الاختيار بينها وبين مادة التاريخ التي بات محتواها هي الأخرى خارج التاريخ والجغرافيا والمنطق في نظام يختلف أركان السلطة فيه على كتابة تاريخنا الحديث.
إذاً، هل نحن متفقون على القواعد العامة التي تتشكل منها مادة التربية المدنية؟ وأي تنشئة نريد لهذه الأجيال، في ظل الانقسام اللبناني - اللبناني على أساسيات بناء المجتمع الذي يقف عائقاً أمام إحراز أي تقدّم في أي مجال، فكيف الحال في القضية التربوية؟
القوانين ليست نصوصاً أدبية تُطبّق عبر التلقين، ومنهاج مادة التربية المدنية الحالي بعيد عن الواقع ومنفصل عن احتياجات ومتطلبات المجتمع، وهذا ما يجعل هدف المادة معاكساً للمطلوب منها، فيصبح الطلاب أكثر نقمة على مفهوم الدولة ومؤسساتها وتترسّخ في أذهانهم قاعدة أن المنظومة التي نعيش فيها ليست جديرة بالولاء ولا بالالتزام بقوانينها، وعليه يلجأ الطالب إلى استيفاء الحق بالذات وإلى الحماية من أي جهة عدا مؤسسات الدولة.