للمرة الأولى في تاريخها تجمع «مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية» أهالي تلامذتها لتعرض لائحة بالمستحقات المتوجب دفعها للسنة المقبلة حتى لمن يحمل بطاقة معوّق. لا تزال غدير (اسم مستعار)، والدة الطفل علي (صاحب إعاقة ذهنية)، تحت تأثير الصدمة. فبعدما حصلت من وزارة الشؤون الاجتماعية على بطاقة معوّق تغطّي جميع نفقاته التعليمية، تُسأل اليوم عن تسديد 600 دولار في السنة، لا يهمّها تسميتها «أقساط أو دعم صندوق المعلمين». هي أصلاً لا تلوم المؤسسة التي «تعاني عجزاً مالياً» وإنما يخيفها أثر هذا القرار على حياة ابنها، وخاصة أنه يترافق مع زيادة كبيرة على الأقساط في مدرسة ابنتيها. ينخر ذهنها ردّ الزوج: «لن أتحمّل تعليم الثلاثة، ليبقى علي في المنزل، فهو لا يتعلم شيئاً». تبكي وتردّد: «لا يزال الوقت مبكراً لأسجنه في المنزل». حالها لا يختلف عن حال أحدهم الذي رفع صوته في الاجتماع: «نحن بالكاد نأكل ونشرب»، وأخرى تشكو: «زوجي سائق أجرة كيف سيجمع المبلغ؟»، وسيدة تخاف أن يخسر ابنها كل شيء اكتسبه من المؤسسة إذا عجزت عن تأمين المبلغ بالإضافة إلى كلفة الباص المدرسي.
تسليع الرعاية
تبدو أزمة مؤسسات ذوي الإعاقة المالية في طريقها إلى نهاية مماثلة لنهاية أزمات كثيرة، مثل شحّ المحروقات وانقطاع الأدوية وفقدان طحين الخبز: تهديد وجودي لسلعة أو خدمة أساسية لانتزاع قبول مجتمعي بدولرتها ورفع أسعارها. مسار يترجم مقولة: من يملك النقود يأكل ويتنقّل ويتعالج، حتى صارت من يملك المال من الأشخاص المعوّقين يتعلم ويتعالج ويحصل على خدمات الرعاية والتأهيل.

من إحدى التظاهرات أمام المصرف المركزي للإفراج عن مستحقّات المؤسسات (مروان بو حيدر)

تُساق المؤسسات الرعائية إلى هذا المخرج بعدما جرّبت كلّ الطرق من تظاهرات وتلويح بالإقفال، إلى لقاءات مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار، أدركت بعدها أن لا أحد يهتم بالأشخاص المعوّقين. وازدادت التحديات المالية التي تواجهها، من توقف وزارة المالية عن صرف مستحقاتها منذ عام 2021، مستحقات لا تغطي 3% من التكاليف الفعلية، لأنّ وزارة الشؤون حدّدتها بالليرة اللبنانية وفق دراسة مالية تعود إلى عام 2011، أي ما يعادل اليوم 100 إلى 130 دولاراً في السنة عن كلّ تلميذ يحمل بطاقة معوّق، إلى استمرار المصارف في حجز أموالها الخاصة والسماح بسحب 1000 دولار شهرياً فقط على سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار الواحد. حتى جمع التبرعات صار أصعب مع اشتداد الأزمة وارتفاع عدد المحتاجين إلى المال لأكثر من غاية.

الموظفون نَفِدَ صبرهم
كيف مضت هذه السنة من دون تحميل الأهالي أعباء مادية نراها شرطاً للاستمرار في العام المقبل؟
عن ذلك يجيب رئيس الاتحاد الوطني لشؤون المعوّقين ومدير «مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية» إسماعيل الزين: «صبر الموظفون على رواتب زهيدة هذا العام موعودين بزيادات تحفظ حقهم في السنة المقبلة، ولنحافظ على فريق متخصص قد يفكر في الهجرة أو فتح عيادات خاصة مربحة أكثر لهم وضعنا تصوّراً لكلفة رواتبهم وتبين أنها تتجاوز المليون و200 ألف دولار سنوياً وتقضم 62% من الموازنة العامة». وعن التبرّعات التي جمعتها المؤسسة ولا سيما ضمن مبادرة «كن صديقي» يشير الزين إلى أنها «وصلت إلى 260 ألف دولار لكنها ستغطي كسورات السنة الحالية». من هنا يرفض تسمية ما طلبته المؤسسة من الأهالي بالأقساط أو الرسوم بل «هو دعم صندوق المعلمين، فبعدما حدّدنا كلفة الرواتب والعلاجات وحسمنا مخصّصات الشؤون والتبرعات التي نؤمّنها، يجب على الأهالي تسديد كلفة تراوح بين 300 و600 دولار حسب حالة كل شخص معوّق وما يحتاج إليه من خدمات»، مطمئناً: «لن يخرج أحد من المؤسسة، واستثنينا الأهالي الأشد فقراً والأيتام».

إقفال جزئي... فكامل
إذا كانت مؤسسة الهادي تطلب ما أقصاه 600 دولار وترى أنها «تجازف في إطلاق العام الدراسي المقبل»، فهناك مؤسسات أخرى «بدأت تطلب من الأهالي رسوماً فعلية لقاء الرعاية والتأهيل حتى تستمر»، كما يقول الزين من دون الدخول في الأسماء. هكذا انحصرت الحلول بين: الإقفال التام أو تسليع الرعاية. كلاهما يُطبقان اليوم جزئياً.
سيكون الأهالي أمام مفاضلة بين تعليم أولادهم السليمين أو حاملي الإعاقة


تُقفل مراكز إيواء وأقسام «وحتى مؤسسات كاملة عالسكت»، بحسب رئيسة مؤسسة «الأب روبرتس للصم والبكم» باتريس مسلم. تفكر هي أيضاً في إلغاء صف يضم تلميذاً واحداً، وفي دمج الصفوف لتقليص عدد المعلمين، حتى إنها تفكر في تخفيف ساعات الجلسات العلاجية، وهو أمر خطير ولا يشبه التقشّف في الكهرباء والطعام والقرطاسية... هذا المسار يقود إلى الإقفال التام ويطرح مجدداً إشكالية الحاجة إلى هذه المؤسسات. فرغم النظرة السلبية إليها، وعدم رضا المجتمع الدولي بوجود مؤسسات «تحتجز حرية الشخص المعوّق ولا توفر دمجه في المجتمع» لا يقابل هذه المؤسسات أي بديل. «هل المدارس بشكلها الحالي، وبعيداً عن أزماتها المالية، جاهزة لاستيعاب الأشخاص المعوّقين وتحمّل المسؤولية»؟ تسأل مسلّم، ويأتيها الجواب عبر نزوح التلامذة ذوي الإعاقة من المدارس لافتقادها الجانب العلاجي والتأهيلي إلى مؤسسات الرعاية. وتضيف: «ليس الدمج أمراً سهلاً، وإذا قرّر الأهالي الانسحاب إلى المدارس فإنهم يحتاجون إلى مدرّس خاص يرافق الطفل المعوّق في الصف وإلى جلسات علاجية بعد الظهر، وهو أمر مكلف جداً».

التكاليف أكبر من قدرة الأهل
حتى تستمرّ هذه المؤسسات فهي بحاجة في الأساس إلى دعم من خزينة الدولة. وعندما تشكو «الدولة» عجزها عن المساعدة، يصبح أضعف الإيمان أن تسعى للحصول على دعم خارجي دائم يؤمّن استمرارية هذه المؤسسات، وإلا ستطلب المؤسسات الدعم من الأهالي، وهذا ما يحصل اليوم بشكل ضيّق تحت عنوان دعم وتبرعات «تمهيداً للتخلي الكامل عن هذه المؤسسات وتحميل الأهالي وحدهم العبء المادي»، كما تحذّر مسلّم. ولا يبدو ذلك خياراً قابلاً للتطبيق لأن «تكاليف الرعاية والتأهيل لذوي الإعاقة كبيرة جداً وتتجاوز الخمسة آلاف دولار في السنة، عدا ما يتحمّله الأهالي من أعباء مادية ترتبط بالأدوية والأجهزة». لذلك لم تطرح مسلّم الدفع إجباراً بعد، وإنما فتحت باب الدعم اختيارياً، لأنها متأكدة من عدم قدرة الأهل على الدفع.

المفاضلة: المعوّق خارجاً
ماذا يعني إذاً تسليع الرعاية والتأهيل بالنسبة إلى الأشخاص ذوي الإعاقة؟
تتخيّل مسلّم مشهداً «مخيفاً»: البقاء في المنزل أو النزول إلى الشارع. كما تطرح الحال فرضية المفاضلة بين أولاد معوّقين وغير معوّقين، ما يعيدنا عقوداً إلى الوراء عندما كان الأهل يختارون تعليم ولد أو اثنين ويرسلون البقية إلى سوق العمل، طبعاً لا يدخل الولد المعوّق في لعبة الاختيار، لأن الأهل لا يؤمنون بقدراته ويفكرون في الاستثمار في ولد «منتج». هذه الفرضية قاسية جداً ومخيفة، وليست من نسج الخيال عندما تستمرّ الأزمة ويفقد الأهل القدرة على تعليم جميع أولادهم.