انتظر أهالي الجالية اللبنانية في السودان، بقلق، وصول أبنائهم سالمين إلى أحضانهم منذ نحو أسبوعين، إلا أن لحظات الانتظار الأخيرة في صالة الشرف في مطار رفيق الحريري الدولي بعد ظهر أمس كانت الأصعب. تجلس امرأة حامل على الأريكة وتنظر إلى ساعة هاتفها، وأخرى مسنّة تمشي منحنية الظهر «أنتظر وصول ابني حبيبي على أحرّ من الجمر. مرّ العيد وهو محاصر في مكان الاشتباك في الخرطوم»، تردّد على مسمع الصحافيين. وبدت علامات القلق على وجه نادية التي تجرّ ثلاث فتيات وبالها مشغول على زوجها الذي «لم يتواصل معي طوال 18 ساعة من الرحلة البحرية، ثم أخبرني على عجل أنه من بين الواصلين اليوم (أمس)». آلات التصوير تقدّمت على الأهالي المنتظرين، والوفد الرسمي الذي يستقبل الدفعة الأولى من الواصلين، على رأسه وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بوحبيب وأسئلة الصحافيين التي انهالت عليهم أخّرت اللقاء أكثر فأكثر.
رحلة العودة
وصل اللبنانيّون الاثنا عشر منهكين بعد رحلة إجلاء طويلة بريّة، فبحريّة، فجويّة. بعضهم التزم الصمت وقرر العودة إلى منزله بهدوء، فيما روى آخرون هول ما عاشوه. خمس ساعات من المشي على الأقدام من فندق الساحة إلى فندق روتانا على وقع القذائف والرصاص وتحت حرارة شمس السودان اللاذعة «كانت مرعبة»، على حد تعبير بول الهاشم. يشير إلى أن «الخطر كان داهماً على جميع الأجانب والمغتربين في السودان لجهلهم المناطق الآمنة التي يجب أن يقصدوها». ويروي عباس غدار جزءاً من كابوس الاشتباك الذي انطلق من دون إنذار، «فجأة بدأ القصف وانقطع الأمل بالهروب عبر المطار، وحاصرتنا الجماعات المسلحة في العاصمة الخرطوم». الأحداث الأمنية التي عاشتها الجالية اللبنانية في السودان والحصار أدّيا إلى «انقطاع الكهرباء والمياه والأكل في العاصمة، ما جعل خيار العودة إلى الوطن حتمياً»، وفق مرعي عبد الفتاح، الذي قضى الليالي الأربع الأخيرة من دون نوم بانتظار العودة.
يشكر أحدهم مدير «فندق الساحة» أحمد شمص على ما قدّمه له ولسبعة شبّان لبنانيين آخرين في الخرطوم. إذ «أجلى جميع النزلاء وأبقى علينا نحن الثمانية وقدّم لنا الحماية بعدما دخل مسلحون أكثر من مرة وعبثوا بالمكان من أجل السرقة، فاختبأنا في إحدى الغرف ولم يتعرّض أيّ منّا للأذى». قضى الشبان الثمانية خمسة أيام في «فندق الرعب» تصمّ آذانهم أصوات الانفجارات والقذائف، وعندما أخافهم احتمال ضرب الفندق حيث يمكثون غادروه إلى فندق روتانا الذي «يبعد ثمانية كيلومترات مشياً على الأقدام».

إجلاء على ثلاث مراحل
تجمّع اللبنانيون أمام فندق روتانا في الخرطوم الأحد الماضي وانطلقوا إلى فندق كورال في بورتسودان في رحلة برية «ساعدت لإنجاحها الإمارات العربية»، كما يقول بوحبيب. طارق الذي يعمل في مرفأ بورتسودان من سنة ونصف سنة يثني على جهود السفيرة اللبنانية في السودان التي «خلّصتنا من القذائف التي لا نعرف مصدرها ولا الجهة التي ترميها». المرحلة الثانية التي قطعها المواطنون الاثنا عشر، والتي سيقطعها 32 غيرهم توقّع بوحبيب وصولهم مساء أمس، و22 آخرين في طريقهم إلى بورتسودان، هي الركوب على متن باخرة سعودية تقلّهم إلى مرفأ جدة، قبل ركوب طائرة تابعة لطيران الشرق الأوسط للوصول إلى بيروت.
خمس ساعات من المشي على الأقدام على وقع القذائف والرصاص


الباخرة السعودية التي نقلت اللبنانيين كانت «مجهزة على أكمل وجه»، كما ينقل من ركبها، و«خليّة الأزمة التي أدارتها السعودية كانت منظّمة وسريعة»، بحسب بوحبيب الذي شكر المملكة العربية السعودية، كذلك الأردن التي عرضت المساعدة، لكن إمكاناته لا ترقى إلى إمكانات المملكة. كما خصّ بوحبيب بالشكر رئيس الجالية اللبنانية في السودان سعد الله ميقاتي على «لمّ شمل اللبنانيين الراغبين في العودة».
أعلن بوحبيب عن إجلاء 70 لبنانياً في السودان، لكنه ليس العدد الإجمالي للبنانيين في البلد الذي يشهد أحداثاً أمنية صعبة. هناك رجال أعمال تركوا مصالحهم خلفهم، وغادر آخرون مكان عملهم متوسّلين الأمان. جميعهم أجمعوا على جمال السودان وطيبة أهله، متأسفين ممّا يحصل، ومتمنّين الخير لهذا البلد الذي «يستحق الحياة».