عندما تتداخل السياسة والمصالح الفئوية مع القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، تكون الغلبة في معظم الحالات لمصلحة ما هو مخالف للقانون، لأن الشواذ في منظومة أساساتها طائفية سياسية، وليست قانونية، يصبح قاعدة عامة. في لبنان، تتوزع المهام القضائية بين أربع نيابات عامة: النيابة العامة التمييزية المسؤولة عن النيابة العامة المالية، والنيابة العامة الاستئنافية، والنيابة العامة العسكرية. وللنيابات العامة قواعد تحكم أعمالها واختصاصها، وتمثل جميعها المصلحة العليا للدولة. سنتحدث في هذا المقال عن النيابة العامة المالية ومسؤولياتها تجاه المجتمع والدولة، وسنحاول أن نحدّد مدى تحمّلها مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي من خلال الإضاءة على نموذج حول التقاضي أمامها


كيف تتحرك النيابة العامة المالية؟
تتحرك النيابة العامة المالية بناء على طلب النائب العام التمييزي في كل الجرائم المالية التي يتّصل خبرها بعلمه، كما على النائب العام المالي أن يُطلع النائب العام التمييزي بكل دعوى مهمة تُعرض أمامه (المادة 10). هذا يعني أن النائب العام المالي يتحرك، إما بناءً على طلب النائب العام التمييزي، أو بناءً على شكوى أو إخبار مقدّم أمامه بشكل مباشر، وعليه إعلام النائب العام التمييزي به. في المقابل، على النيابة العامة الاستئنافية أن تُعلم النيابة العامة المالية في كل الدعاوى التي تصل إليها ولها علاقة باختصاص النيابة العامة المالية.

ما هو دور مكتب مكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال؟
يُنفّذ قرارات النيابة العامة المالية ويجري التحقيقات المرتبطة بالشكاوى الواردة إليها، مكتب مكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال التابع لقوى الأمن الداخلي، الذي ينسّق بشكل كامل مع «هيئة التحقيق الخاصة» التابعة لمصرف لبنان. يُعدّ هذا الجهاز ضابطة عدلية، إذ يُجري التحقيقات الأولية ويُنظم المحاضر ويُحيلها إلى النيابة العامة المالية لإجراء المقتضى القانوني، كما يُنفّذ هذا الجهاز كل القرارات المرتبطة بأعمال النيابة العامة المالية.

كيف تُقدّم الإخبارات والشكاوى أمام النيابة العامة المالية؟
تقدّم أمام النيابة العامة المالية شكاوى يُتخذ فيها صفة الادعاء الشخصي المباشر في وجه المدعى عليه سواء كان شخصية عادية أو اعتبارية أو سياسية. كما يقدّم أمامها إخبار عن مخالفة قانونية أو عن ارتكاب جرم من ضمن اختصاص النيابة العامة المالية، التي عليها التحرك فوراً ومتابعة كافة التحقيقات اللازمة من مضمون الإخبار واتخاذ القرارات المناسبة.
كل إخبار يصل إلى النيابة العامة المالية بشكل مباشر عبر تقديمه بموجب كتاب، أو بشكل غير مباشر عبر وسائل الإعلام أو خبر يتداوله الرأي العام، على النائب العام التمييزي أن يطلب مباشرة من النائب العام المالي التحرك لإجراء التحقيقات اللازمة وإجراء المقتضى القانوني. وبإمكان النائب العام المالي أن يتحرك فوراً بعد إبلاغ النائب العام التمييزي.

نماذج إخبارات وشكاوى أمام النيابة العامة المالية
في العام 2020 قُدّم إخبار أمام النيابة العامة المالية ضد مؤسسة تجارية تتعاطى الأعمال المالية، من قروض ورهن وتداول بالعملة الرقمية، خلافاً لموضوعها وللقانون. مع بداية أزمة المصارف، تعامل صاحب هذه المؤسسة والعاملون فيها مع الزبائن على أنهم مؤسسة مالية تُطبّق قرارات مصرف لبنان، لجهة إعطاء الزبائن فقط 30% من نسبة أموالهم المستحقة شهرياً. بعد أشهر قليلة من بدء الأزمة، قرّر صاحب المؤسسة الاستيلاء على كل الذهب المودع لديه وسَيله أي تحويله إلى العملة الورقية بالدولار الأميركي. تعالت صرخة الزبائن، وحصل تبادل لإطلاق النار بين الزبائن والحراس المولجين حماية فروع المؤسسة. وبدأت تظهر للعلن تسجيلات صوتية وفيديوهات تبيّن عمل العصابات داخل فروع المؤسسة من خلال السلاح الظاهر مع الموظفين، والاعتداء الجسدي على بعض الزبائن وإلزامهم بتوقيع براءات ذمة شاملة لصالح المؤسسة لقاء إعطائهم جزءاً بسيطاً من أموالهم.
الانتهاكات والاعتداءات التي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي لم تحرّك ساكناً لدى أي جهاز أمني أو قضائي، إلى أن قدّم أحد الموظفين السابقين العاملين في المؤسسة إخباراً إلى النيابة العامة المالية، وعرض مستندات ووثائق تُثبت جرم النصب والاحتيال ومخالفة قانون النقد والتسليف وتبييض الأموال وإساءة الأمانة. وتبعه عدد من الشكاوى أمام النيابة العامة الاستئنافية من قِبل بعض الزبائن، وقد قُدرت الأموال المسلوبة، من حوالي خمسة آلاف زبون، من لبنانيين وجنسيات أخرى، بملايين الدولارات تبدأ باستثمار ليرة ذهب وتصل إلى رهن مئات السبائك.
الأمر المستغرب الذي يطرح عشرات علامات الاستفهام حول عمل النيابات العامة، كان مدى تدخل السياسة في أعمالها، وكيف تُقدّم المصلحة الفئوية على المصلحة العامة من دون أن يرفّ جفن لِمن يتخذ قرار حفظ الإخبار أو الشكوى، مع عدم إجراء أي تحقيق أو اتخاذ أي تدبير احترازي وأي استدعاءات، وفي أحسن الأحوال قد يُجرى تحقيق شكلي ويُقرر حفظ الشكوى لعدم وجود جرم.
في النموذج الذي تحدثنا عنه وبعد حفظ الشكوى، تقدّم ثمانية وثلاثون مدعياً بشكوى مع اتخاذ صفة الادعاء الشخصي كي تُقطع الطريق على احتمال حفظ الشكوى بسبب العدد الكبير للمدّعين، وأُرفقت بالمستندات التي كانت مرفقة بالإخبار الذي حُفظ، بالإضافة إلى مستندات أخرى جديدة. استلمت الشكوى قاضية من القضاة المساعدين للنائب العام وأجرت استجواباً لأحد الموظفين العاملين في المؤسسة ولوكيل الزبائن، ودققت في المستندات المرفقة. وبعد تشاور سريع مع النائب العام المالي اتُّخذ القرار بإقفال جميع فروع المؤسسة في كل لبنان بالشمع الأحمر والادعاء على صاحبها بجرم تبييض الأموال.
سلكت الشكوى نفسها، أمام المرجع نفسه، مسلكين مختلفين. حُفظت في البداية (إخبار)، وأُقفلت المؤسسة بالشمع الأحمر في المسلك الثاني (تقديم الشكوى)، والسبب تدخل السياسة والحسابات الفئوية بالعمل القضائي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، والذي يدفع ثمنه كل شرائح المجتمع بما فيها الجسم القضائي.
في قضية أخرى، تقدّمت جمعية «الجنوبيون الخضر» في العام 2014 بإخبار أمام النيابة العامة المالية بموضوع سرقة 66 مسلة جنائزية فينيقية من مدينة صور إبان الاحتلال الصهيوني للجنوب، إذ تُعدّ هذه السرقة من أكبر العمليات التي قام بها أفراد في التاريخ لجهة عدد المسلات وأهميتها العلمية والتاريخية، وحتى تاريخ كتابة هذا المقال لم يجر أي تحقيق بشأنها، ولم تُعد إلى المتحف الوطني على الرغم من أهميتها الكبرى، ليس لبنانياً فقط، إنما على صعيد التاريخ الإنساني العالمي.
هذا النهج المتّبع من قِبل النيابة العامة المالية في الملفات الحساسة، يفتح الباب واسعاً لارتكاب جرائم مالية كبرى تستهدف مؤسسات الدولة ومقدّرات شعبها. وهنا تكمن أهمية دورها المقيّد باعتبارات طائفية وسياسية تحدّ من صلاحيات النائب العام وتقيّد عمله. من جهة ثانية، إن حجم المخالفات الكبرى وعدد الشكاوى الكبير الذي بمعظمه يقدّم كإخبارات، منها موثّق بالمستندات والأدلة ومنها ما يحتاج إلى التحقيق والتدقيق ويقدّم فقط لتسجيل المواقف السياسية، لا يوجد عناصر بشرية كافية لمتابعتها. كما لا تتوافر إمكانيات لوجستية للتحقيق فيها سواء بالعدد المحدد من القضاة والمساعدين القضائيين المسؤولين عن كل المناطق اللبنانية، وهذا أمر يجب أن يؤخذ في الاعتبار لأنه أيضاً أحد الأسباب التي تعيق عمل النيابة العامة المالية، إلى جانب التدخلات السياسية.

أزمة نهج
تكرار مقولة إن عشرات الإخبارات والشكاوى تُقدّم أمام النيابة العامة المالية تحديداً، من دون اتخاذ أي إجراء قضائي بحق المخالفين والمرتكبين وتوجيه السهام نحو النائب العام المالي بأن أقصى ما يقوم به هو دعوة المشكو منه لشرب فنجان قهوة والسلام، هو كلام إعلامي يندرج ضمن باب المزايدات الإعلامية ولا يضع الإصبع على الجرح ولا يقدم أي حل للواقع المحكومين فيه.
عندما تتداخل السياسة والمصالح الفئوية مع القوانين تكون الغلبة لمصلحة ما هو مخالف للقانون

لأن الأزمة ليست أزمة نائب عام أو قاض من هنا أو هناك، إنما هي أزمة نهج متكامل وأزمة نظام قائم على المحاصصة الطائفية وحفظ حق كل طرف بعدم المساس حتى بمجرميه وفاسديه. بالتالي، فإن المسؤول المباشر عمّا وصلنا إليه، بضرب صمّام أمان أي مجتمع «السلطة القضائية»، هو النظام السياسي بكافة أركانه. ولا يمكن لأي جهة التنصّل من مسؤولياتها، لأن المحاصصة الطائفية والسياسية تتحكم بكل مفاصل مؤسسات الدولة، من تعيين الحاجب إلى تعيين المدير العام والوزير والنائب العام. ويبقى الموظف مرتهناً للجهة التي عيّنته وليس للنصّ القانوني الواجب التطبيق. لهذا يبقى مشروع استقلالية السلطة القضائية منسياً في أدراج مجلس النواب وعصياً على الإقرار، لأنه يجرّد هذه المنظومة من أهم أسلحتها، بل أكثر من ذلك، تصبح السلطة القضائية السلاح الموجه نحو رؤوس أركان السلطة السياسية من دون أي تمييز بينها وأي تفضيل لجهة على أخرى. يصبح القانون وحده من يُطاع، من رأس السلطة إلى كل فئات المجتمع. فهل من نيّة جدية لإقرار قانون «استقلالية السلطة القضائية»؟



تحديد الاختصاص
أنشئت النيابة العامة المالية (بموجب المادة 31 من المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 16/9/1983) وتخضع لسلطة النائب العام التمييزي. ويشمل اختصاصها ما يلي:
• «المخالفات المتعلقة بالقوانين الضريبية، الأميرية والبلدية والرسوم الجمركية ورسوم المخابرات السلكية واللاسلكية والرسوم العائدة للمؤسسات العامة والبلديات.
• الجرائم المتعلقة بالقوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة ولا سيّما المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف.
• الجرائم المتعلقة بقوانين الشركات المساهمة وجرائم الإفلاس إضراراً بالدائنين.
• الجرائم التي تنال من مكانة الدولة المالية وجرائم تقليد وتزييف العملة والأسناد العامة والطوابع وأوراق التمغة واختلاس الأموال العمومية» (المادة 6، من المرسوم الاشتراعي رقم 1937، تاريخ 16/11/1991، تحديد مهام وصلاحيات النيابة العامة المالية).
من خلال هذه المهام المحددة حصراً في مرسوم إنشاء النيابة العامة المالية، نرى حجم الدور والمسؤولية المنوطة بها، خصوصاً في ما يجري حالياً على الساحة اللبنانية، وتحديداً أزمة المصارف وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية وغيرها من الجرائم المالية الكبرى التي انكشفت للعلن في السنوات الثلاث الأخيرة.