تتحدث القاضية أماني سلامة (قاضي التحقيق الأول في البقاع) بحسرة عن حال القضاء، هي التي اختبرت واقعه على مدى سنوات طوال. تقول: «الأمور على الصعيد القضائي ليست على الطريق الصحيح، كما هي حال البلد. حتى اليوم، لا يزال قانون استقلالية السلطة القضائية بشقّيه المعنوي والمالي غير متوفر، ومعالجات الوضع المالي للقضاة لا تزال غير جدية. وهذا أمر متوقّع طالما أنه ليس هنالك أي منحى إصلاحي عام وعادل، ولا أي خطة علمية لدى السلطة السياسية التي تكتفي بالمعالجة بالقطعة والمسكّنات والفتات». ترفض سلامة الاتهامات بأن «اعتكاف القضاة لأشهر عدّة هو ما أوصل القضاء إلى وضعه الحالي. لا بل إن من السذاجة قول ذلك لأن الاعتكاف جاء ردّ فعل على وضع مأساوي عام تعاني منه السلطة القضائية أيضاً». إذ «لا يكفي أن يقصد القاضي مكتبه حتى تصطلح الأمور. فالقاضي مرتبط بعوامل عدّة من شأنها تسيير الأمور القضائية بشكل طبيعي. واليوم، يستحيل مثلاً أن يداوم المساعدون القضائيون بشكل طبيعي في قصور العدل بعدما فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية، ما يشجعهم على اِلتماس الإكراميات والرّشى».
(موسى غوموز ــ تركيا)

«القضاء اللبناني يعيش حرب وجود على مستوى بقائه معنوياً ومادياً من كل النواحي»، يقول القاضي حسن حمدان (قاضي تحقيق في الجنوب). ويكمن التحدي في «إقناع القضاة الأكْفاء وغير المنغمسين في لعبة الفساد والإفساد بالبقاء ومواصلة النضال المهني، كونهم الأكثر تأثراً بالأزمة، ولأنهم يتلقّون وسيتلقّون عروضاً للالتحاق بمؤسسات القطاع الخاص محلياً أو في الخارج». ويشدّد حمدان على ضرورة إصدار قانون السلطة القضائية، و«استغلال الظرف الضاغط حالياً على السلطة السياسية لإقراره في حدود المتاح ومن دون مبالغة».

حاجات غير متوفّرة
تلفت سلامة، من جهتها، إلى الأوضاع «السيئة جداً» للضابطة العدلية، وهي جهاز أساسي في عمل القضاء الجزائي. «ففي أغلب الأوقات، يداوم العسكري خارج مهامه الأمنية، ويقوم بأعمال فردية لتحصيل مردود إضافي بعلم المراجع الأمنية التي تعتبر نفسها غير قادرة على تأمين متطلبات الحياة البديهية للعسكريين، فيما لا تلتفت السلطة السياسية إلى كرامتهم. أضف إلى ذلك أن هناك نقصاً حاداً في المستلزمات والأمور الأساسية لتسيير العمل القضائي بالحد الأدنى، من أدوات مكتبية وفاكس وتلفون وكهرباء وأدوات تنظيف وغيرها». كما «لا بد من توفير الوسائل القانونية التي تمكّن القاضي من الوصول إلى المعلومات اللازمة بسهولة وتسريع الإجراءات القضائية وتعديل بعض القوانين التي تكبح عمله، والعمل على توزيع عبء العدد الهائل من الملفات، حتى لا يبقى القضاء بطيئاً أمام قضايا الفساد والإجرام التي تتزايد بسرعة البرق».

ليس شعراً ولا حلماً
«نحن في حاجة إلى قضاء يتصدى للمآسي التي يتعرّض لها الشعب اللبناني، ضمن خطة قضائية واضحة وشاملة تضع السلطة السياسية أمام مسؤولياتها وواجباتها لحل الأزمات في أسرع وقت بما فيه مصلحة المواطن فقط. كما أننا بحاجة إلى قضاء حكيم ينقضّ على القوي المتجبّر على الشعب وعلى حقوقه، لا على الضعيف الذي دفعه الزمن الرديء إلى خطأ ما. هذا ليس شعراً ولا حلماً، بل حق لكل مواطن عليه أن يعي أن خلاصه مرتبط بقوة مؤسسات الدولة فقط»، تقول القاضية سلامة.
يبقى الشرط الأساس للوصول إلى قضاء فعّال يلبّي طموحات الشعب أن ينال استقلاليته الفعلية، فلا يرهن القاضي قراره لمصلحة زعيم أو جهة سياسية كانت وراء تشكيله أو تعيينه في مركز محدد، ولا يلبّي مصلحة بيئته وتوجهاتها أو يصبو إلى الاستحصال على رضاها للتقدم في المراكز القضائية أو حتى الإدارية والوزارية.

أسباب تعثّر الإصلاح
«ليست لدى السلطة السياسية نيّة صادقة بالوصول إلى استقلالية فعلية للقضاء، فضلاً عن أن هناك جزءاً فاعلاً من القضاة لا مصلحة له بمثل هذه الاستقلالية»، بحسب حمدان. «عندما نبلغ مرحلة إعطاء القضاء استقلالية كاملة، عندها نكون قد بدأنا نقارب الموضوع بقواعد ثقافية وسياسية مختلفة كلياً عن الوضع القائم حالياً».
ويؤكد حمدان على أنه «يقيناً لا يمكن إحداث إصلاح مستدام في أي فرع من فروع الدولة، التي تسمّى السلطات العامة، من دون إصلاح جذري وعميق في السلطة السياسية. إذ إن القضاء هو فرع لأصل وليس أصلاً بحدّ ذاته، ولا يمكن لأي قضاء في العالم أن يكون سليماً بشكل كلي في ظل نظام سياسي غير سليم. فالقضاء يحتاج إلى كلّ أجهزة الدولة ليكون فعّالاً، وإلا دخلنا في تحليل وهمي ينتج مزيداً من الإحباط». ويعتبر حمدان أن «الإصلاح الفعلي والحقيقي الاستراتيجي للقضاء، الذي ينعكس على الحياة العامة، متعذر اليوم. جلّ ما يمكن القيام به هو إدخال تحسين على الوضع القضائي، بمعنى تخفيف العيوب والثغرات الموجودة فيه من خلال إصدار قانون استقلالية القضاء بصيغة مقبولة. ولا يجب أن نبقى أسرى التمسك بقاعدة إمّا الإصلاح الشامل أو اللا إصلاح، باعتبار أن الحلم أو الأمل في تحقيق الإصلاح الجذري في المدى القريب والمنظور، قد تجاوزناه، وهو أمر يقع على عاتق الشرائح الناخبة وما فيها من استقطابات تستلزم عملاً دؤوباً من جهات شتّى، تمهيداً للوصول إلى دولة مدنية مبنية على المواطنة لا الرعية».

مبادرة نادي قضاة لبنان، ماذا يقول القضاة؟
تقول القاضية أماني سلامة، أول رئيسة لنادي قضاة لبنان، إن النادي تأسس في إطار«رد فعل القضاة على تعدي السلطة السياسية على السلطة القضائية، وبعض الممارسات القضائية الخاطئة. مارس القضاة حقهم في التجمّع، وهو حق معترف به لهم في كل المعاهدات الدولية»، مشيرةً إلى أن «مهمة النادي الأساسية تتركز على تعزيز وتحصين استقلالية القضاء، وقد شارك النادي في جلسات عدّة للجنة الإدارة والعدل ووضع ملاحظاته على مشروع قانون استقلالية القضاء العدلي، وحالياً يشارك في لجنة تعديل قانون القضاء الإداري».
وتلفت سلامة إلى أن «النادي يعمل على إعلاء الصوت لتصحيح المسار، وهو لا يتمتع بأي سلطة تنفيذية فعلية على الأرض»، لكن «القضاة أعضاء النادي يستطيعون ضمن مهامهم واختصاصاتهم أن يطبّقوا هذه المبادئ».

مكي يخشى تعديل مشروع القانون
يشدّد رئيس نادي القضاة القاضي فيصل مكي على أن قانون استقلالية القضاء وحده لا يكفي، «لكن لا يمكن المضي في مسيرة الإصلاح من دونه». ويلفت إلى أن هناك اقتراح قانون أمام لجنة الإدارة والعدل النيابية، «لكنه لا يلبّي كل طموحاتنا، فقد عمل وزير العدل على استعادته ووضع ملاحظاته عليه، وهذه الملاحظات برأينا تضرب الاستقلالية. نتخوّف من أن يعطونا قانوناً لاستقلالية القضاء بلا مضمون، خصوصاً أن ملاحظات وزير العدل أعادتنا سنوات إلى الوراء لجهة تشكيل مجلس القضاء الأعلى، إذ تخلو من الاستقلالية. وإن كنا نتفهّمه، كون السلطة السياسية لا ترغب بالتخلي عن فرض سلطتها على السلطة القضائية».

سلامة لاستعادة «الهيبة»
تؤكد سلامة أن «القضاء يعدّ الصامت الأكبر، وهذه الصفة أمست عبئاً عليه كونها لا تؤمّن له إطلاقاً أي رهبة أو هيبة. وإذا كان موجب التحفّظ يقضي بأن يحافظ القضاء على وقاره، إلا أن حالة الصمت المطبق تسهّل التعدي عليه وتشويه صورته وعمله. لذلك، عمل النادي منذ تأسيسه على ممارسة حق التعبير بحكمة، بإعلاء الصوت وتسمية الأمور بأسمائها عبر إدانة ما يجب إدانته، وتأييد ما يجب تأييده، واقتراح ما يراه واجباً. وقد ساهم في تشكيل رأي عام مهم حيال ما يجري على الساحة القضائية، وبات رأي النادي محط انتظار من الجميع، بفعل المصداقية والتجرّد والاستقلالية التي كانت ولا تزال محرّك النادي مهما حاول بعض ضعاف النفوس تشويهه».
ورداً على ما يثار حول استقلالية أعضاء النادي، أجابت: «لا ندّعي أن كل القضاة المنتسبين إلى النادي مستقلون فعلياً، كما لا ندّعي بطبيعة الحال أن كل القضاة خارج النادي غير مستقلين».
ورغم صعوبة الوضع الحالي، تؤكد سلامة أن «هناك قضاة ممتازين يتمتعون بمؤهلات كبيرة، أهمها انتفاضتهم بشجاعة على واقع قضائي مرّ وواقع عام أمرّ. علينا أن نُكافح في هذا البلد، كلّ في موقعه، علّنا نصل يوماً ما إلى العيش في بلد يتمتع مواطنوه بحقوقهم البديهية».

حمدان: الخروج عن المعايير الطائفية
يرى القاضي حسن حمدان أن أهمية نادي القضاة تكمن في «وجود تجمّع مهني منظّم ذي مرجعية محددة يساهم في تأمين فاعلية أكبر في إعلاء صوت المطالب القضائية، خصوصاً أن النقاش ضمن الهيئتين العامة والإدارية للنادي مفتوح وحر ضمن ضوابط مهنية بالدرجة الأولى، بعيدة كل البعد عن المعايير الطائفية، آفة البلد وجذر تهالكه».
رواتب المساعدين القضائيين فقدت قيمتها الشرائية ما يشجّع التماس الإكراميات والرّشى


ويعتبر حمدان أن النادي «ساعد في تكريس ثقافة الخروج عن المعايير الطائفية من خلال النقاش العلمي والمهني بين أعضائه وفق المعايير المعتمدة في كل دول العالم، كما سمح بالإضاءة على دور الوظيفة القضائية وضرورة وجود سلطة قضائية مستقلة»، مؤكداً أن هناك قضاةً يتفاعلون مع أفكار النادي من دون الانتساب إليه رسمياً.
ويختم حمدان بأن «النادي يركز على نشر الوعي، ونشر الثقافة القانونية، كما يلعب دوراً حيال السلطة السياسية من خلال الإضاءة على الوضع القضائي ورفع الصوت من خلال بياناته وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال أداء أعضاء النادي، ما يشكل مدخلاً لتجربة عمل عام مختلفة، في محاولة لبعث الأمل وتجديد فرص الخروج من الأزمات المتتالية التي فُرضت على القضاء ماضياً وحاضراً، وربما مستقبلاً».



الاتحاد العربي للقضاة: ضمانات الاستقلالية «غير ناضجة»
«واقع القضاء قاتم في أغلب البلدان العربية»، هذا ما تؤكده الأمينة العامة للاتحاد العربي للقضاة القاضية أميرة العمري، مشيرةً إلى أنه «هشاشة الاستقلال المؤسساتي والضمانات القانونية في الدول العربية، في ظل التجاذبات بين السلطات السياسية والسلطات القضائية في كثير من البلدان نتيجة السياسات المتّبعة». وتضيف: «رغم التطور الذي طال العمل القضائي في عدد من الدول العربية، من خلال القوانين والتشريعات واعتماد الرقمنة في المحاكم والهيئات القضائية، لا تزال السياسات العربية تؤثر على الوضع القضائي بشكل مباشر، وتختلف التأثيرات بين بلد وآخر بحسب ظروفه. فهناك بلدان تحت وطأة الاحتلال كفلسطين، وهناك بلدان تشهد ثورات وتغييرات على صعيد المجتمع والأنظمة السياسية». وتؤكد العمري أن «الاتحاد العربي للقضاة، وحّد القضاة العرب في جسم قضائي يتشاركون فيه الأهداف نفسها ويتقاسمون فيه الهموم والمشاغل والطموحات. ورغم أنه جسم فتي، إلا أنّه قوي لأن ولادته كانت قوية تحدّت الظروف الصعبة. إذ لم يكن سهلاً تأسيس جسم قضائي يتخطى مختلف الحواجز القانونية والجغرافية لجمع القضاة العرب».
وتأسس الاتحاد (مقره تونس) في كانون الثاني 2019 على يد مجموعة من القضاة العرب. وهو هيكل قضائي عربي إقليمي يضم الهياكل العربية القضائية والقضاة العرب. وقد صادق على النظام التأسيسي اثنا عشر هيكلاً من مختلف البلدان العربية.
وعن أهداف الاتحاد، تؤكد العمري أنها «أهداف جامعة، تسعى إلى تكريس استقلال القضاء». وتضيف: «لا ننكر أن استقلالية السلطة القضائية مطلب عزيز في العالم العربي، ونثمّن استقلالية القضاة في أحكامهم، لكن الضمانات القانونية والهيكلية والمؤسساتية لا تزال فتيّة غير ناضجة في الدول العربية، لذا كان عملنا في الاتحاد لتجسيد تلك المطالب، خصوصاً أن الأمة العربية بيئة واحدة ومناخ واحد. وكما نتحدث عن معايير دولية للقضاء، يمكننا أن نتحدث عن معايير عربية تراعي خصوصية القضاة العرب والمنطقة العربية». وتشرح أن «القضاة المؤسسين آمنوا بالفكرة وقدّموا التمويل للاتحاد، وحرصوا على عدم تلقي أي تمويل أو تبعية من أي جهة خارجية ليكون الاتحاد بمنأى عن أي خلفيات تؤثر على عمله».


تأسس نادي قضاة لبنان كجمعية في نيسان 2018 (حاز على علم وخبر رقم 138 سنة 2019). عمل 33 قاضياً على وضع النظام الأساسي والنظام الداخلي للنادي. وهو يضم قضاة من الفروع الثلاثة: القضاء العدلي، القضاء الإداري (مجلس شورى الدولة)، والقضاء المالي (ديوان المحاسبة). يبلغ عدد القضاة المنتسبين للنادي 106. شارك النادي في تأسيس الاتحاد العربي للقضاة، وهو عضو في الاتحاد الدولي للقضاة.
حول أسباب تأسيس نادي قضاة لبنان، يقول رئيسه القاضي فيصل مكي: «ترتبط الأسباب غير المباشرة بوجود سلطة قضائية تحكمها القوانين، التي تسمح بعدم استقلالية القضاء، وتعطي السلطة السياسية والسلطة التنفيذية الحق في تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى أو تشكيل القضاة. ونتيجة لعدم استقلالية القضاء، أضحى أكثرية القضاة الذين عملت السلطة السياسية على تعيينهم، لا يمثلون إرادة القضاء الحقيقية». أما الأسباب المباشرة فتتمثل «بالمسّ بحقوق القضاة وضماناتهم في كل مشروع موازنة تصدر عن السلطات. وأنشأنا هذا التجمع القضائي للمطالبة باستقلالية القضاء وعدم تسييسه وعدم تبعية القضاة للسلطة السياسية».