تُرفع الشعارات المطالبة بالعدالة في لبنان بعد حسم الإدانة وإصدار الأحكام. ويُنتظر صدور الحكم بسرعة، ولا بد أن يكون مطابقاً للتوقّعات، وإلا قد يُتهم القاضي بالانحياز، وتُعدّ المحاكمة مؤامرة، والقضاء أداة بيد فريق على حساب آخر.ينطبق ذلك على جميع الفرقاء في لبنان، ويؤدي إلى تحويل القضايا الجنائية القضائية إلى مواضيع صدامية. وتُحال مرافعات الدفاع والقرارات الاتهامية والطعون الشكلية إلى حلبة الصراعات السياسية والطائفية والفئوية.
صحيح أن القضاء في لبنان ليس مستقلاً، وأن هامش التدخل في عمله والتأثير على قراراته واسع. وصحيح أن بعض القوانين قديمة وأخرى غير قابلة للتطبيق وتحتاج إلى تحديث، غير أن المشاكل التي يعاني منها مسار العدالة لا تقتصر على ذلك، إذ إن تعطيل تسلسل الإجراءات القانونية وعدم صدور الأحكام والقرارات الحاسمة وترك العديد من القضايا الجنائية عرضة للتجاذبات الشعبوية، كلّ ذلك يبدو مناسباً لعدد من القضاة والمحامين. عشرات جرائم القتل والتفجير والاعتداء والإخفاء القسري بقيت من دون متابعة قضائية جدية، بينما تنتشر في وسائل الإعلام إدانات حاسمة بالجملة، وتُعرَض أفلام ووثائق وتُبثّ مقابلات وكأنها دليل قاطع يمكن الاستناد إليه لمعرفة الحقيقة. وبدل أن يُحصر تحديد الحقيقة بالمحكمة بعد السير في الإجراءات التي تمنح المتهمين حق الدفاع، وتعرض الإثباتات والدلائل وتدرس صدقيتها بدقّة، يتعطل المسار إما بسبب التدخلات السياسية أو بسبب خلل في تسلسل الإجراءات، أو بكل بساطة لأن بعض القضاة هم جزء من المنظومة الحاكمة، وقد تماهوا معها إلى حدّ زوال الصفات التي يفترض أن يتمتعوا بها كقضاة. ولا يخفى على أحد أن بعض القضاة انتقلوا لاحقاً إلى العمل السياسي أو إلى التجارة والقطاع الخاص، والبعض الآخر ربما يتمنى ذلك اليوم بسبب انهيار قيمة راتبه ومخصّصاته.
إن إصلاح القضاء في لبنان قد لا يستدعي قانوناً يضمن استقلاليته عن السياسيين ورجال الدين ورجال الأعمال فحسب، بل لا بد أن يضمن استقلاليته عن عقلية منتشرة بين بعض قضاته أساسها التسليم بسطوة قوى الأمر الواقع الطائفي عليه، والتصرف وكأنّ السلطة للقوة وليست للحق. إصلاح القضاء ليس من مصلحة السياسيين والطائفيين، بل هو مهمة الجسم القضائي نفسه كسلطة منفصلة تستدعي قضاةً شجعاناً يستندون إلى إثباتات علمية بعد التدقيق في صدقيتها، ويعملون بجدية وبالسرعة اللازمة ولا تهمهم التظاهرات والاستعراضات الإعلامية ورفع صورهم، ولا يسمحون احتسابهم لصالح فريق من اللبنانيين ضد فريق آخر. فالعدالة ليست سلاحاً أو أداة بيد مجموعة، بل هي أولاً قيم مبنيّة على قواعد ثابتة (مثل الاستقلالية وقرينة البراءة وحقوق الادّعاء والدفاع)، وثانياً، هي الالتزام بتسلسل الإجراءات بالسرعة الممكنة والوصول إلى «علاج فعّال» وعادل يستند إلى القانون ويحسم الحقيقة. والقاضي الفاشل هو من يُحتسب من «حصّة» مذهب أو طائفة أو تيار أو حزب أو سفارة، أياً يكن.