تنطلق صبيحة اليوم الدفعة الثانية من القوافل المحمّلة بالمساعدات العينية والتبرعات المالية إلى المتضرّرين من الزلزال في سوريا، ضمن حملة «رحماء» التي نظّمتها جمعية «وتعاونوا» الخيرية. 900 طن من «الحب» ستثلج قلوب السوريين في حلب وتعينهم في «نكبتهم»، لكنها، بحسب رئيس الجمعية عفيف شومان «ليست غير حقنة مورفين أمام حجم الإصابة التي مُنوا بها، ووحدها الجهات الدولية القادرة على لجم الكارثة بالفعل لا بالقول».خلافاً لما جرت العادة، لم تطلق جمعية «وتعاونوا» حملة تكافل اجتماعي وتناشد الناس للمساعدة، «الناس هم من ناشدونا لإغاثة المتضرّرين في سوريا ومدّ يد العون لهم، فاستجبنا لهم، وأطلقنا الحملة في اليوم التالي للزلزال، معلنين استقبالنا المساعدات في 17 مركزاً موزعة على مناطق مختلفة، مثل: النبطية، بنت جبيل، صور، عكار، طرابلس والضاحية الجنوبية».

مساعدات كالمطر
ما إن أطلقت الحملة صافرتها حتى «أغدق الناس علينا المساعدات كالمطر في شكل غير متوقع في ظل الظروف الصعبة». تحرّكهم في ذلك إنسانيتهم في الدرجة الأولى، و«روابط الأخوة» التي تجمعهم بالجار السوري بالدرجة الثانية، وتحديداً في بيئة المقاومة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، كنوع من رد الجميل الذي رأوه من سوريا خلال الحروب والأزمات. يؤكد هذا العطاء أيضاً عدد المتطوعين الذي بلغ 350 فرداً إلى جانب 35 دائمين، يوزعون المهام في ما بينهم: إحضار الأغراض، التوضيب، الفرز، التسجيل على الأكياس، نقلها… مع العلم أن «هناك أكثر من 700 فرد آخرين تطوّعوا وأعلنوا استعدادهم للذهاب إلى سوريا، أحدهم في الستين من عمره، لكننا أخبرناهم أن الأعداد صارت كافية».

تقاسموا أغراضهم
نظرة سريعة إلى التبرّعات تؤكد أن اللبناني تقاسم ثيابه وأغطيته وفرشه مع شقيقه السوري، كما يتقاسم الإخوة رغيف الخبز. «لم تكن الثياب التي تصلنا بالية، وبعضها كانت لا تزال في ورقتها، كما وصلتنا أكياس أرز ناقصة تؤكد أن أصحابها حملوا المؤن من بيوتهم وقدّموها». وبين الأشياء ألعاب تبادلها الصغار ورسائل وفاء للشعب السوري، أحدها تقول: «بيننا وبينكم خبز وملح وصمود وانتصار وكرامة».
وصلت الرسائل وأثلجت قلوب السوريين شعباً ودولة وإعلاماً، فـ«لبنان بلد شبه منكوب ولم يبخل علينا»، كما قالت الصحافة السورية عندما غطت وصول القافلة الأولى للحملة الأحد الماضي. على مدخل اللاذقية، عند المستديرة، تجمع حشد من السوريين واستقبلوها «أحلى استقبال»، على حد تعبير شومان، الذي يخبرنا كيف «رشّونا بالأرز»، ثم يصحّح: «بالورد، فليس لديهم أرزّ». لا تزال تطنّ آذانه بهتافات الشكر والامتنان.

القافلة الثانية والأخيرة؟
حملت القافلة الأولى إلى مدينة جبلة في اللاذقية، نحو 650 طناً من المواد الغذائية، الحصص التموينية (10 آلاف حصة)، حليب الأطفال، الحفاضات لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال، الأدوية، المستلزمات الطبية، الخيم، البطانيات، الفرش، الوسادات، الثياب والأحذية، والمبالغ المالية التي ستوزّع على مدار أربعة أشهر على عائلات فقدت معيلها، من دون أن توفر النازحين إلى منازل ذويهم من الحصص الغذائية. ولتحضير اللوائح بأسماء المحتاجين وماهية الاحتياجات، تعاونت الجمعية مع جمعيات المجتمع المدني السوري وجهات رسمية (المحافظات). وتركت جزءاً من فريقها في سوريا للإشراف على التوزيع بحسب اللوائح المعدّة.
عند التسليم، سأل السوريون عن استمرارية المساعدات، و«شدّوا على أيدينا: ما بدنا مصاري ولا ثياب، بدنا أكل وحليب وحفاضات». لذلك، وبعد أول زيارة «حدّدنا الاحتياجات الفعلية للزيارة الثانية، فقلّلنا من الألبسة وأكثرنا من الأطعمة ولا سيما المطلوبة في المطابخ الميدانية لأن العدد في المآوي كبير جداً». لكن، أغلب الظن، ستكون هذه القافلة الثانية الأخيرة لتتحول يد المساعدة إلى اللبناني في شهر رمضان.

عادت القافلة محمّلة بالأسى
عاد المتطوعون من زيارتهم الأولى لسوريا، بعد تسليم الأمانة، محمّلين بكثير من الأسى وصور فاقت توقعاتهم قساوة، فـ«السمع ليس مثل الشوف». سمعوا عن سوريين ينامون في العراء بلا أكل ولا تدفئة، فظنوا في ذلك مبالغة حتى وصلوا بعد 16 ساعة، وهالتهم رائحة الموت تعبق أينما كان، والمناظر المؤذية لناجين أمام الأبنية المرتمية، يتوسّلون خبراً عن أحدهم أو ينتظرون بلا أمل جثة آخر. وناجون خرجوا من الزلزال بلا قريب، خسروا كل عائلتهم. «الصدمة لا تزال تطبع وجوه الكبار والصغار، ينزوي الأيتام والثكالى في الزوايا، وحتى من نجا وكلّ عائلته لا ينفك يذكر كيف اهتزّت الأرض تحت قدميه بجنون وتمايل معها البناء»، ينقل أحدهم.
ليست الجمعيّة من أطلق الحملة بل الناس هم من ناشدونا لإغاثة المنكوبين في سوريا


إلا أنّ النكبة في سوريا سابقة للزلزال، إذ يضغط الحصار على السوريين حتى في لقمة عيشهم. قصد محمد فوّالاً في اللاذقية لتناول الفطور، فـ«قدّم لي صحن الفول مع لفت فقط، سألته عن البندورة والبصل وزيت الزيتون... فأجابني: عندما تتوفر في الأسواق نقدمها». لطالما ارتسمت هذه المدينة في رأس محمد «مكاناً سياحياً ينبض بالحياة، لكنني لم أر غير مدينة متوفاة لا روح فيها… أبنية سوّيت أرضاً من دون أن تتلاشى كما اعتدنا أوقات الحروب، بل أسقف ضاغطة فوق بعضها البعض في مشهد يصعب وصفه».
تحوّلت المدينة الرياضية، حيث ملاعب التنس وكرة السلة الشاسعة، إلى مأوى لآلاف المنكوبين يعيشون ظروف حياة قاسية. لا تدفئة في هذا المكان البارد، وحدها الأغطية سيدة الموقف، «تجد خمسة أفراد يحتمون بغطاء واحد. الثياب على أجسادهم هي نفسها التي خرجوا بها لحظة الزلزال، يعني بالبيجاما».