مشكلة الصدقية في عمل القضاء اللبناني عميقة للغاية. ويصعب إقناع غالبية اللبنانيين بأن المشرفين على السلطة القضائية وغالبية العاملين في الجسم القضائي يملكون حيادية واستقلالية وشجاعة تسمح بضمان حقوق الناس. لا يقتصر ذلك على القضايا الكبيرة أو ذات البعد السياسي، بل يشمل حتى الملفات الجنائية العادية. وفيما يكثر الحديث عن ضرورة منح القضاء استقلالية تامة تعزله نهائياً عن التأثير السياسي، يبدو واضحاً أن دعاة هذا الطرح من قلب الجسم القضائي هم الأكثر انحيازاً ربطاً بالأوضاع السياسية وبحسابات طائفية ومذهبية.لكن هذا لا يكفي لتبرير تدخلات غير عادية في ملفات يعالجها القضاء اللبناني. ففي كل مرة يتصدى قضاة لتولي مهام حساسة، تنطلق حملة للتعطيل من الداخل. لكن ما يجري هذه الأيام، هو أن قوى سياسية وقضاة يستدعون الخارج للتدخل، ويقومون بإجراءات تفسح المجال أمام القضاء الأجنبي للتدخل بطريقة تعكس النظرة الفوقية للغرب، واستعداد الحكومات التي تقف خلف الوفود القضائية لممارسة أعلى درجات الوصاية على كل المؤسسات في لبنان.
وفي هذا السياق، ينبغي النظر إلى مهمة الوفد القضائي الأوروبي (فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ) لمتابعة ملف اتهام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشركائه بالاختلاس وتبييض الأموال. فقد برر الوفد الأوروبي مهمته باتفاقيات دولية تسمح له بطلب المعونة من لبنان، وأيضاً بأن اللبنانيين يعطّلون التحقيق. وما يجري يعيدنا، عملياً، إلى تجربة المحكمة الدولية الخاصة التي انتهت أعمالها بتبني تقرير فني أعده فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، لكن بعدما أنفق لبنان على المحكمة نحو مليار دولار نصفها من جيوب اللبنانيين.
في الجولة الأولى من مهمة الوفد الأوروبي، تم الاستماع إلى عدد من الموظفين في مصرف لبنان وإلى مديري مصارف كبيرة وصغيرة. وتبين أن الأسئلة التي وُجّهت إليهم مطابقة لتلك التي طرحها عليهم القاضي جان طنوس في جلسات استماع سابقاً، إضافة إلى تفاصيل تدل على أن الأوروبيين لا يملكون بقية ملف التحقيقات اللبناني، ولا سيما كشوفات حسابات رجا سلامة في مصارف لبنانية.
لكن الجديد في هذه الجلسات، أنها شهدت تطوراً في توصيف بعض الشهود لما يحصل. صحيح أن كل ممثلي المصارف نفوا علمهم بوجود شركة «فوري» أو أي شركة وساطة مالية بينهم وبين مصرف لبنان خلال عمليات بيع سندات الخزينة. إلا أنهم اعتبروا أن الأموال التي استحقت كعمولات على العمليات المالية دفعتها المصارف، وبالتالي فهي أموال خاصة، ما يسقط شبهة اختلاس المال العام عن سلامة وشركائه. أضف إلى ذلك أن مديري المصارف قالوا إنهم نفذوا قراراً إلزامياً صادراً عن المجلس المركزي لمصرف لبنان بأن عمليات بيع السندات تشتمل على دفع المشترين نسبة عمولة إلزامية، من دون ذكر أي شركة وساطة. وبالتالي، استوفى مصرف لبنان العمولة وحوّلها لمصلحة «فوري» التي نفى نواب حاكم مصرف لبنان علمهم بوجودها، فيما قال بعضهم إن المجلس المركزي فوّض الحاكم التعاقد مع شركة وساطة.
لكن مراجع قضائية تؤكد أنه لا يمكن لشاهد، خصوصاً إذا كان ممثلاً لشركة تجارية، أن يصنف الأموال بين خاصة وعامة، وأن هذه مهمة القضاء، سواء في مرحلة التحقيقات أو الادعاء أو التحقيق أو الحكم. وبالتالي لا يمكن الركون إلى هذا التوصيف. كما أن اعتبار المصارف أن الأموال المستوفاة كعمولة هي أموال خاصة، وطالما أنها لم تطلع على طبيعة هذه العمولة، فما عليها سوى الادعاء على مصرف لبنان والمطالبة باستعادة هذه الأموال العائدة أصلاً إلى المودعين، وهو ما لم يحصل. أما في حال دافع المصرف المركزي عن أحقية العمولة، فعليه أن يطالب الحاكم باستعادة هذه الأموال إلى صندوقه الخاص.
وتشير الجهات القضائية المعنية بالتحقيق إلى أن قرار المجلس المركزي بفرض عمولة وتحديد نسبة موحّدة لها من دون أن يشير إلى شركة وساطة معينة، يعطي هذه العمولة طابع الرسم أو الضريبة، وبالتالي يحوّلها أموالاً عامة، بمعزل عن مصدرها. وهذا يعني أن تحويلها لمصلحة شركة وساطة هو عملية اختلاس للمال العام، قبل أن يتطور الأمر إلى تهمة تبييضها من خلال مصارف لبنانية وأجنبية وتحويلها إلى عقارات أو أموال نقدية.
في هذا السياق، يبدو أن المحققين الأوروبيين الذين سيعودون إلى لبنان مطلع شباط المقبل سيرسلون إلى النائب العام التمييزي غسان عويدات طلباً بالحصول على كامل الوثائق الخاصة بملف التحقيقات، وخصوصاً كشوفات حسابات رجا سلامة. وسرّبت الوفود القضائية الأوروبية، ولا سيما الفرنسية، للصحافة الفرنسية بأن لبنان تعاون مع الوفد، وسلّمه مجموعة من الوثائق المصرفية العامة شرط عدم استخدامها خارج التحقيق أو اطلاع غير معني عليها، وأن الزيارة سمحت للمحققين الأوروبيين بإنجاز عملية الربط بين الأموال وبين شبكة شركات تعمل في أوروبا. وقالت مصادر مطلعة إن قاضية التحقيق الفرنسية أود بوريسي شرعت في إنجاز ملفاتها لتوجيه الاتهام إلى سلامة. ونقلت صحيفة «الموند» أن بوريسي التي ستتولى مهمات جديدة في حزيران المقبل، لا تنوي مغادرة موقعها الحالي قبل إدانة سلامة وشركائه. وأشارت الصحيفة إلى أن مقرّباً من سلامة تعاون مع قضاء لوكسمبورغ وفق برنامج حماية الشهود، وأن الأوروبيين عرضوا منصة لاستقبال أي معلومات تفيد التحقيق مع توفير حصانة للمتبرعين بالمعلومات. كما يجري الحديث عن «شاهد ملك» في القضية، وسط إشارات إلى أن المقصود هو نبيل عون العامل في سوق شركات الوساطة المالية، والذي كانت تربطه علاقة قوية مع سلامة قبل وقوع قطيعة بينهما خلال إجراء الهندسات المالية في العام 2016. وقال مطلعون إن عون الذي اعتذر عن عدم الاجتماع بالمحققين الأوروبيين خلال وجودهم في لبنان، سافر إلى أوروبا.
القاضية الفرنسية تريد إدانة الحاكم قبل حزيران وادعاء لبنان ينتظر حاموش


وفي باريس، قال متابعون للملف إن الاهتمام الفرنسي ينصب على معرفة الثغرات التي نفذ منها سلامة لاستغلال النظام المصرفي في أوروبا للقيام بعمليات تبييض الأموال، أكثر من اهتمامه بأصل الاتهامات الموجهة إلى الحاكم في لبنان والخارج. ومن الواضح أيضاً أن الأوروبيين لم يطلعوا لبنان على تفاصيل تحقيقاتهم، فيما أظهر التحقيق اللبناني تورطاً واضحاً لمصارف في فرنسا وبريطانيا وسويسرا ينبغي أن تُلاحق بتهمة تسهيل عملية تبييض الأموال.
وقالت مصادر حقوقية إن تحقيقات الوفود القضائية الأوروبية لم تقتصر على تبييض الأموال، بل شملت أربعة عناوين أخرى بينها اختلاس المال العام. لكنها لفتت إلى أن من تم التحقيق معهم لم يطلعوا على سبب الاستماع إليهم من قبل القضاء الأوروبي، ما يفتح الباب أمام الطعن بنتائج هذه التحقيقات.
يبقى أن الجميع ينتظر ما سيقوم به المحامي العام رجا حاموش الذي انتقل ملف سلامة إليه بعد تنحية القاضي زياد أبو حيدر، إذ إن حاموش ملزم بتنفيذ أمر عويدات الادعاء على سلامة استناداً إلى ملف التحقيقات التي أجراها طنوس وإحالة سلامة وشركائه إلى قاضي تحقيق. وتلقت «الأخبار» إشارات عن احتمال حصول خلافات حول طبيعة الادعاء وحصول تغيير أو حذف في بعض أوراق ملف التحقيق المحال من طنوس، وفي حال حصول ذلك سيكون القضاء اللبناني أمام فضيحة جديدة، خصوصاً أن الصحافة الفرنسية نقلت عن أعضاء في الوفد الأوروبي أن التحقيقات سلكت هذه الطريق لأن هناك شكوكاً قوية بأن يتولى القضاء اللبناني محاكمة سلامة الذي يتمتع بحماية غالبية القابضين على السلطات في لبنان، وأن بعضهم يفكر في التمديد له بعد انتهاء ولايته الصيف المقبل.