مقالات مرتبطة
-
علي الهادي طليس: تسرّعت ونشرت... وتفهمت زينب حاوي
ما يقوله هالدان يُجمع عليه المتمرّسون في العمل البحثي سواء كان نظرياً أو تطبيقياً أو ابتكارياً، فالإعداد يعني باختصار امتلاك المعرفة والأدوات والمنهجية والإطلاع الكافي على ما يحصل من تقدّم علمي. هذا ما تجهله الغالبية العظمى في مجتمعاتنا، والتي هي ضحية افتقارها لمهارة التدقيق ولمحدودية ثقافتها العلمية. ففي المدرسة، لا تولي المناهج أي أهمية لتمكين الطلاب من أدوات البحث عن مصادر موثوقة لمعلوماتهم وهو ما يجعل الجميع عرضة لتبنّي الأخبار الزائفة التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات الإنترنت حيث لا حسيب ولا رقيب. ولو كان لدى مجتمعاتنا حدٌ أدنى من الثقافة العلمية لكانت الأخبار الزائفة أقل وطأة، ولا داعي لنكرّر هنا أننا عندما نصل إلى الجامعة نغرق في التخصصات الضيّقة، التي لا تتيح لنا تكوين ثقافة متشعّبة تمكننا من فهم المسار العلمي ونقد أي ظاهرة ترتبط بالعلوم ولو حتى من باب التشكيك. وما يزيد من ضعف هذه الثقافة هو غياب الإعلام العلمي بشكل عام وبشكل خاص في المواقع والوسائط التي تتناقل المعلومات من دون أي تمحيص وتدقيق علمي محايد. ولذا لا يلام من آمن بالقصة حيث أن حتى أساتذة جامعيين قد تشوشت عندهم قابلية النقد الموضوعي.
ما حصل هو أيضاً على ارتباط وثيق بالواقع الاجتماعي الذي نعيشه، وفي صلبه الإحباط والشعبوية والانقسامات الطائفية وتراجع الثقة بالمؤسسات. فما فعله هذا الشاب، وهو في مقتبل العمر، ربما ليس سوى ترجمة لحاجته القول "أنا موجود"، وأن لديه بعض الأفكار التي يراها هو مبدعة وخلاقة، إما عن قناعة حقيقية وقدرات فذّة وإما عن جهلٍ بحدود إمكاناته. أخطأ الأسلوب طبعاً، ويا ليته استشار جهات علمية قبل أن يلجأ لأساليب أضرتّه ونسفت مصداقيته. في بلد "الخمسين جامعة"، لم تذهب أي صفحة إلكترونية أو وسيلة إعلامية لاستشارة أي جهة لأخذ رأي علمي رصين، وهذا إن دلّ على شيء فهو تفضيل الشعبوية على منهجية التقصّي كما وضعف الإيمان حتى بجامعاتنا ومؤسساتنا البحثية. أما من فرح بصدق، وهلّل "للإنجازات" فهو أكبر دليل على تعطشنا لجرعة أمل في كلّ السواد الذي نعيشه، ومن الواضح أنه نمط سائد في غالبية دول العالم الهامشي علمياً (تماماً كالهوس بتصنيف الجامعات) والمأزوم الذي يلهث وراء أي إنجاز حتى ولو وهمي. ما كان مؤسفاً هو أن الكثير من الهجوم الجارح والكثير من التهليل الأعمى، كانا فقط من باب الانتماء الطائفي أو المناطقي أو العقائدي، وهما بنفس السوء ويحرّفان الحقيقة.
النقطة المضيئة في ما حصل، هي ما قام به من عملوا على كشف الخلل، وإن بقسوة أحياناً، من باب الحرص على مصداقية العلم، وهذا دليل على وجود من ما زال يؤمن بضرورة مواجهة تسخيف العلوم والبحوث و"الاختراعات" (الحقيقية)، وهو رد فعل استباقي كي لا نفقد الثقة مستقبلاً بكلّ فكرة ومشروع فقط لأننا مرّرنا بتجربة ملتبسة. على أمل أن نستلهم العبر.
أهمّ ما في هذا السجال بين فريق مهلل وفريق مهاجم، وإصرار البعض على النكران رغم البراهين والأدلة، أنه يعيدنا إلى إشكالية العلاقة بين المجتمع، وكلّ ما يمت للعلوم بصلة، وهي علاقة متأرجحة بين فقدان الثقة بالعلوم والتقديس الأعمى للألقاب. المفارقة أن مجتمعنا يهزأ من المؤسسات العلمية ومن العلم أيضاً، وينبهر لمجرد رؤية كلمات مثل غينيس، دكتوراه، مخترع، عالم، إلخ. هذا التناقض يحتاج وحده لدراسة معمّقة تربط ما حصل بتحلّل المعايير التي تؤطر مقاربتنا لكلّ ما يدور حولنا، فنحن جميعاً ندفع ثمن التسطيح الفكري الذي يتجذّر منذ عقود، وثمن الشعبوية التي فتكت بكافة طبقات المجتمع وفئاته والتي ستتمدّد مع رقمنة العالم وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي والتي يربطها الفيلسوف إريك سادان ببزوغ "عصر الفرد الطاغية" وما له من انعكاسات على تفكيرنا وسلوكنا وتفاعلاتنا. علينا أن لا ننسى أيضاً أن تهميش مفاهيم النزاهة العلمية، وهي على رأس الضوابط التي عليها أن تحكم أي عملية علمية يسهّل غالباً، في ظلّ ضغوط اجتماعية هائلة، سلك الطرق المشبوهة. كلنا خطاؤون والعبرة في العودة عن الخطأ بخاصة إن لم يكن عن سوء نيّة ولأهداف يراها المخطئ نبيلة ومحقّة، ولذا قال يوماً الإمام علي قوله الشهير "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه".
* الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلمية