تعريب: كاترين داغر
دُمّرت بيروت؛ مات الناسُ - ها هو الحدادُ على العدالة! بهذه الكلمات، نصفُ الحالة التي وصل إليها لبنان في آب 2020، بعد التفجير الذي أودى بحياة 232 شخصاً وخلّف سبعة آلاف جريح. منذ حوالي عامين، ينظّم أهالي الضحايا مسيرات مطالبة بالعدالة، بمن فيهم هيام البقاعي التي قُتل ابنُها في التفجير. تقول البقاعي: «حيث لا توجد عدالة لا وجود لدولة»، وهذا ما يشعُر به كثيرون غيرها. أمّا والدة الياس الخوري، وهو ضحيّة يبلغ من العمر 16 سنة، فتقول: «تغيّرت حياتي كلّها. ما عاد لكلمة الحياة معنى». وهي لا تزال تعيش مع ذكرياتِ ابنِها كل يوم: كيف كان يستيقظ، وماذا يرتدي، وأحاديثهما، والتفاصيل الصغيرة كلّها. كما عاش رفاقُه هذه الصدمة أيضاً. تعمّق ألم فقدان هذا الشاب، ابن الستة عشر ربيعاً على أهله وأشقّائه وأقاربه. أثّرت الجراحُ غير المُعالجة بشكل كبير على نفسيّةِ الناس كما عزّزت الصدماتِ الجَماعيّة لدى الشعب اللبناني.

لم يكن النظامُ القضائيُ فعّالاً في تأمينِ الإجابةِ المُرضيةِ لمُعالجةِ هذه الصدمة وأيّ نوع من التعويضات وأيّ شعور بالتعافي في تلبية حاجات الضحايا وحتى حاجات المجتمع بأكمله. يستحقُ الشعبُ اللبنانيُّ فرصةً جذريّةً للتصالح مع ذاته. لقد اعترض أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت عدّة مرّات على تعليقِ التحقيقاتِ اللبنانيّةِ بشأنِ هذه الكارثة، كما قام النظامُ السياسيُّ بتغييرِ القضاة المسؤولينَ عن هذه القضيّة مرّتين. أمّا السياسيّون اللبنانيّون فكان موقفهم متمثّلاً بتجاهُل المخالفات الحاصلة ورفض المثول أمام القضاءِ كمشتبه فيهم متّهِمينَ القاضي بتجاوُزِ صلاحيّاته، الأمر الذي زاد من الشعورِ بالظلمِ وعدمِ الأمان.
يأتي تفجير بيروت شاهِداً على فشل المؤسسة القضائية، وهناك المزيد. فالأمر أشبه بكارثة بيئية وإنسانية تحتاج إلى معالجة. وليس الطريقُ القضائي السبيل الوحيد للقيام بذلك. الحالاتُ على غرار تفجير بيروت تتطلّب مقارباتٍ تساعدُ على التئام الأضرارِ التي خلّفها الانفجارُ على الأفرادِ والمجتمعِ، واستكشافَ المسؤولياتِ عن الحدث المأساوي ونتائجه إضافة إلى إشراك المجتمع في الآليّات التي تهدف إلى تظهير الشعورِ بالحزن ومعالجةِ الجراح، والعمل بشكل جَماعيّ على إصلاح الضّرر وبناء ما تمّ كسره. هل المقاربة الجزائية للعدالة هي الاستراتيجية الفُضلى لمعالجة الأذى والأضرار؟ في حالة تفجير بيروت، هل الهدف الرئيسيّ هو تحديد الجناة وتصحيح السلوك الذي تسبّبَ بالضرر؟ هل من شأن ذلك أن يساعد على مداواة جراح الشعب والمجتمع اللبناني؟ هل ستجلب حلولاً مستدامةً من شأنها أن تمنع وقوع حوادث مماثلة مرّةً أخرى؟
ربما يكون النظامُ القضائيُّ الحاليُّ غيرَ قادرٍ على معالجة الظلم، لأنه غير مجهّز بمقارباتٍ واستراتيجيّاتٍ مختلفةٍ من شأنها أن تسمح للمواطنين بالتعبير عن ألمهم ومعاناتهم ووجَعهِم. لذلك يجب اغتنام الفرصة للبحث عن المزيد من الآليّات والمقاربات لإعادة الثقة بالعدالة ومؤسّساتها. كيف يمكننا تحقيق ذلك؟ كيف يمكننا السماح للناس بالبدء بالتعافي واستعادة شعورهم بالثقة في مؤسسات مثل المحاكم في لبنان؟ جئنا بالتالي نقترح نظاماً ألا وهو العدالة التصالُحيّة.
يمكن تصوير العدالةِ التصالحيّةِ على أنّها تصميمٌ فعّالٌ لمعالجة الأذى والعار والضر والألم، كما أنّ من شأنها أن تمثّلَ مقاربةً واستراتيجيّةً لجعلِ الأشخاصِ المتضررينَ من الظلم، مثل تفجير بيروت، يشعرون بالتعافي مرة أخرى. فما هي إذاً العدالة التصالحية؟ وكيف بإمكانها مساعدة المصابين على التعافي من جراحهم؟ وأين يمكن تطبيقُها؟
من المتعارف عليه أن العدالة التصالحيّة تدور حول إضفاء الطابع الإنسانيّ على القيم والعلاقات، والمسؤولية الجَماعيّة والفرديّة ومعالجة الضرر وتعزيز المجتمع. كما تتألّف من أشكالٍ مختلفةٍ من الممارساتِ، مثل حلقات صناعة السلام والوساطة بين الضحيّة والمجرم، وعَقد اجتماعاتٍ بين المجموعات الأُسَريّة ولجان المصالحة. هذه كلّها تسمح لنا من خلال الالتزام والمناقشة ببناء العدالة بشكل جماعيّ من خلال الحوار.
أعطت ممارسات العدالة التصالحيّة للعديد من الناس حول العالم أداةً ومساحةً للمشاركة المباشرة في التعامل مع العار والأضرار وعلاج ما تمّ كسره. علاوةً على ذلك، يمكن لممارسات العدالة التصالحية أيضاً أن تكون أداةً لتنظيم المجتمعات والسلطة القضائيّة من حيث تقديمها نموذجاً مُستداماً للعدالة وذات فعالية أكبر، من خلال الإصغاء إلى احتياجات الناس ومعالجتها. تتمتّع العدالة التصالحيّة بإمكاناتٍ عاليةٍ تجعلها تحويليّةً على المستوياتِ الشخصيّةِ والجَماعيّةِ والمؤسّساتية.
كيف تُساعد العدالة التصالحيّة اللبنانيينَ والمجتمعَ على تخطّي صدمات تفجيرِ مرفأ بيروت ومعالجة آثاره؟
كما ذكرنا، فإن العدالةَ التصالحيَّة هي مقاربة تحويليّة وسلميّة مبنيّة على الحوارِ هدفها الرئيسيّ تعزيز المجتمعات من خلال تقوية العلاقات وتحقيق الشعور بالتعافي لجميع الأطراف. فقد عانى لبنان من صراعاتٍ عميقة تجذّرت في حياة المواطنين اليوميّة والنظام ككلّ. لا تقتصر كلمات السلام والعنف والصراع على الحرب فحسب بل تشمل أيضاً النزاعاتِ وسوء المعاملة والأفعال والكلمات الجارحة على سبيل المثال لا الحصر. ليس السلام النتيجة النهائية فقط بل هو عملية حلّ النزاعات الداخلية والعميقة من أجل بناء مستقبلٍ مستدامٍ ومثمرٍ. إذا كان من الممكن النظر إلى هذا التاريخ من الصراع على أنّه مولّد للتوترات الاجتماعية والأضرار والعواقب، فهو يكشف أيضاً عن صلابة المجتمع اللبناني ومواطنيه في مواجهة الأحداث المُضرّة، فضلاً عن قدرته على التعامل معها على غرار تفجير بيروت، فبالتالي يمكن لممارسات العدالة التصالحيّة استغلال هذه القدرة لتعزيز عمليات التعافي والمساءلة وتمكين المجتمع.
للقيام بذلك، من المهم جداً دمج ممارسات العدالة التصالحية في المجتمع من أجل تقوية العلاقات وتعزيز التفاهم والاحترام والتسامح والثقة، إضافة إلى التحدُّث عن تفجير بيروت وانعكاساته على حياة المتضرّرين والمجتمع اللبناني. يمكن لهذه العملية أن تنتج من واضعي السياسات أو حتى نظام العدالة بحدّ ذاته، كما يمكن أن تكون حصيلةً تمّ التوصّل إليها استناداً لمقاربة «من القاعدة إلى القمة»، التي يمكن أن تبدأ في المجتمعات المحليّة والأحياء والمدارس، كنتيجةٍ لعمليات التوعية والتثقيف الهادفة إلى إدخال ممارسات العدالة التصالحيةِ بفضل المنظمات الدولية و/أو المنظمات غير الحكوميّة المحليّة المستعدّة لإعداد حلقات السلام -أو مقاربات أخرى للعدالة التصالحيّة- مع مجتمعات مختلفة، لمعالجة الأضرار والجراح التي خلّفها تفجير بيروت. ربما تكون هذه إحدى الطرق لبناء مستقبلٍ أفضل في لبنان بعد هذا الحدث المأساويّ. كما يمكن توسيع هذه العمليّات الإصلاحية لتشمل القرى والبلديّات، من أجل تعزيز التئام الأضرار والمصالحة من منظورٍ أوسع. وبالتالي يصبح ذلك عملية تربوية قادرة على إحداث تأثير مضاعف يؤثّر على الأُسَر والمؤسسات التعليمية والمجتمعات والسجون والقضاء وكذلك الحكومة، إضافة إلى تعليم طرق جديدة لمعالجة النزاعات والعنف والأحداث الصادمة في لبنان من أجل بناء سلامٍ دائمٍ في هذا البلدِ.

*ميا كرم
* علوم سياسية في الجامعة الأميركية في بيروت - لبنان

**بسام بو داغر
** محام في نقابة المحامين في بيروت

***جو سالم
*** أستاذ العدالة الجنائية في جامعة غفرنرز ستيت – شيكاغو