دخلت البلاد في وضعٍ دستوري غير مسبوق، بتوقيع الرئيس ميشال عون مرسوم استقالة الحكومة، من دون أن يترافق مع إصدار مرسوم تشكيل حكومة جديدة وتعيين رئيسٍ لها. ما هو متفقٌ عليه أنه منذ يوم أمس، فقد الوزراء مبرر «وجودهم الدستوري»، ولم تعد لديهم صلاحية إصدار التعاميم والقرارات. ليبقى النقاش مفتوحاً حول تفسير المادة 64 من الدستور، حول ما إذا كانت تجيز للحكومة المستقيلة الاستمرار في تصريف الأعمال أم لا. وعليه إما تكون لتوقيع عون مرسوم استقالتها مفاعيل أو ينحصر في إطار القيمة الإعلانية. الموقف من المرسوم سيتّخذ حتماً في السياسة مهما يكن المنطق الدستوري، وسيكون محكوماً برد فعل المؤسسات الدستورية المهيمن عليها السياسة، وعلى رأسها مجلس النواب، الذي من المرجح أن يستمر اعترافه بحكومة نجيب ميقاتي كحكومة صالحة للاستمرار بتصريف الأعمال.
(هيثم الموسوي)

قبل استقلال 1943 كان إعلان قبول استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة وتعيين رئيسٍ لها يتم بمرسوم واحد، لتستقر الممارسة بعد الاستقلال على صدورها في ثلاثة مراسيم منفصلة. وجرى العرف أن يُصدر رئيس الجمهورية مراسيم اعتبار الحكومة مستقيلة وكذلك مرسوم تكليف رئيس الوزراء، في نفس التاريخ وبتسلسل رقمي سابق على مرسوم تشكيل الحكومة. تلافياً للدخول في حالةٍ من الشلل والفراغ، بحيث تستمر الحكومة المستقيلة في تصريف الأعمال إلى حين صدور مرسوم قبول استقالتها المترافق وتشكيل حكومة جديدة. ما حدث أمس أن الرئيس عون أصدر مرسوم قبول استقالة الحكومة من دون أن تكون هناك حكومة جديدة أصيلة تمارس سلطتها التنفيذية وتدير شؤون البلد ومرافقه. دستورياً لم يخالف عون أي نص، إذ يخلو الدستور اللبناني مما يوجب إصدار المراسيم سويةً. لكن عون هو الرئيس الأول الذي يقدم على خطوة كهذه، ويُدخل لبنان في وضعٍ دستوري لم يختبره في تاريخه، انقسمت حياله آراء الخبراء. حول ما إذا كان ضبطاً للمسار الدستوري، وضغطاً على القوى السياسية المعنية للإسراع في انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، وبين من يرى فيه تصرفاً غريباً غير مفهوم المآرب. هؤلاء يعود أصل اختلافهم إلى تفسيراتهم المتناقضة للمادة (64) من الدستور، معدّلة وفقاً للقانون الدستوري 18 تاريخ 21/9/1990، وتنص على أنه «... لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال».
يميّز الأستاذ الجامعي المتخصص في القانون الدستوري وسام اللحام، بين دستور ما قبل اتفاق «الطائف» وما بعده. فقبل التسعين كان مرسوم قبول استقالة الحكومة يقطع علاقة الوزير بوزارته. فكانت الحكومة المستقيلة تصرّف الأعمال إلى حين صدور مرسوم استقالتها، وبعد صدوره تنتهي الحكومة كيانياً. أتت تعديلات «الطائف» لتجعل «الحكومة المستقيلة قادرة على الاستمرار في تصريف الأعمال ولو صدر مرسوم استقالتها»، بقوة نص المادة 64. ولذلك يصف إصدار عون لمرسوم الاستقالة بـ«الخطوة الغريبة التي لا معنى لها»، انطلاقاً من أنه «إذا كان الهدف إنهاء حكومة نجيب ميقاتي فيمكن للأخير كما فعل بالاستناد إلى المادة 64 للاستمرار بما يقوم به من تصريف أعمال، وفي حال كان الهدف إبقاء الحكومة في إطار تصريف الأعمال فهذا هو حالها في الأصل، ولا يمكن بأي شكل تعويمها». ذلك لا يلغي «أننا نعيش تناقض منطق الدستور، إذ أن الوزراء أنفسهم فقدوا شرعيتهم المستندة إلى مرسوم تشكيل الحكومة وفق أحكام الدستور الذي يجيز لهم الاستمرار في تصريف الأعمال». ولهذا السبب يرى اللحام أن تداعيات ما فعله عون «كارثية لجهة تعطيل عمل الدولة».
على النقيض يرى استاذ القانون الاداري والدستوري في الجامعة اللبنانية عصام إسماعيل، عدم جواز استمرار حكومة ميقاتي في تصريف الأعمال. والمادة 64 برأيه «تسمح بتصريف الأعمال لحكومة لم يصدر مرسوم استقالتها». وينطلق في تفسيره من فقدان الوزراء لشرعيتهم، وهو أمر متفق عليه. وذلك بالاستناد إلى قواعد القانون الإداري، فوفقها يعد مرسوم تأليف الحكومة بمثابة رخصة منحت الأشخاص صفة الوزراء، وإمكانية ممارسة صلاحياتهم الضيقة في حال تصريف الأعمال والكاملة في الحالة الأصيلة. بهذا المرسوم يتشكّل الكيان الدستوري المسمى حكومة. من دونه لا يمكنها الاستمرار لحظة واحدة. يتحصّن أصحاب هذا الرأي أمثال إسماعيل باجتهاد لمجلس شورى الدولة (قرار رقم 246 تاريخ 2017-2018)، واستقر فيه الرأي على أن استمرارية أي وزير في ممارسة شؤون وزارته معلّقة على شرط أن لا يحجب مجلس النواب الثقة عنه أو أن لا يصدر مرسوم قبول الاستقالة. وهو ما يُسمى في القانون الإداري بالقرار المعاكس الذي يضع حداً لآثار قرار إداري سابق، وبإصدار عون لمرسوم استقالة حكومة ميقاتي أزال عنها الصفة الوزارية.
لا تأثير لهذه التجربة الأولى من نوعها على عمل المؤسسات العامة والبلديات والإدارات العامة، وبرأي إسماعيل «يصح الاستعانة بنظريات تسيير المرفق العام للسماح للوزراء ولميقاتي بالتوقيع واتخاذ قرارات، في الأساس هي من صلاحيتهم، وتحت أنظار مجلس النواب، المفترض به الاستعجال في انتخاب رئيس للجمهورية».
فقد الوزراء مبرر وجودهم الدستوري، ولم يعد لديهم صلاحية إصدار التعاميم والقرارات


المفاعيل الدستورية وكذا السياسية الناجمة عن توقيع عون، لا مفر منها، أمام استحالة الطعن في مرسوم استقالة الحكومة. فبحسب الفقرة 5 من المادة 53 من الدستور، ينفرد رئيس الجمهورية بحق قبول استقالة الحكومة. وهو يعد عملاً حكومياً، لا يحق لمجلس شورى الدولة التحقق من مشروعيته أو دستوريته.

مراسلة مجلس النواب بلا جدوى
بالتوازي وجه عون رسالة خطية إلى مجلس النواب، يطلب فيها سحب التكليف من ميقاتي، والدعوة إلى استشارات نيابية لتكليف رئيس حكومة جديد. وحيالها يتفق الرأي أن مجلس النواب لا يستطيع سحب التكليف، إنما يجدر برئيس الجمهورية الدعوة إلى استشارات نيابية لسحب التكليف، وتسمية شخصية أخرى. وهو موقف سبق وأعلنه رئيس مجلس النواب نبيه بري يوم راسله عون لسحب تكليف الرئيس سعد الحريري. كما أن تكليف ميقاتي ينتفي دستورياً مع انتهاء ولاية عون.