طلبت من النيابات العامة الحدّ من التوقيف الاحتياطي أتخطى صلاحياتي في بعض الحالات الانسانية
لست مع تعيين قاض رديف في قضية انفجار المرفأ
القضاء يحتاج الى موارد اذا اردتم منه ان يكون «المخلّص»
اتُّهمت بفرض «كابيتال كونترول» قضائي على المصارف


هل مات الجسم القضائي في لبنان بعدما داسته شاحنات نيترات الأمونيوم وسيارات المصارف الفخمة ومواكب السياسيين وزعماء الطوائف والمِلل؟ ما الذي تبقى منه، وهل في استطاعته تأمين الحد الأدنى لمواطنين يبحثون عن سبل لتأمين حقوقهم؟ في ظل التخبّط السياسي وتفاقم الأزمات المعيشية والصحية، وتصاعد التوترات الفئوية، نسأل احد أرفع المسؤولين القضائيين عن سبل احقاق الحق في ظل الانهيار. يعدّد المدعي العام التمييزي عوارض المرض الذي يعاني منه القضاء، وينفخ دخان سيجارته، ثم يلتقط أنفاسه ويقول: «أنا متفائل ... بعد حين». يستغرق حدوث العدوى بمرض الكوليرا من 7 حتى 14 يوماً، الا ان المرض قادر على سلب المريض حياته خلال ساعات اذا تُرك من دون علاج ... وفي ظل غياب علاج جدي لمشكلات القضاء المتراكمة، يسلب المرض حياة المؤسسات القضائية شيئاً فشيئاً، وتنهار أجزاء من قصور العدل يوماً بعد يوم. فهل يعود الناس للبحث عن سبل لتأمين حقوقهم و«حلّ» النزاعات بعيداً عن قوس المحكمة كما كانت الحال خلال الحروب الاهلية؟ ام نتمسك بما تبقى من قضاء وقضاة رغم كل العوارض المرضية والعجز المزمن، ورغم تراجع ثقة الناس واليأس الذي يتمدد في قاعة الخطى الضائعة؟ التقينا المدعي العام لدى محكمة التمييز في احد طوابق المبنى المتهالك وسألناه، كما يسأل ذوو المريض في العناية الفائقة عن مصيره وعن العلاج الطبي وعن كلفة الاستشفاء



مرت ثلاث سنوات على تعيين القاضي غسان عويدات مدعياً عاماً لدى محكمة التمييز. وقعت خلال هذه المدة حوادث خطيرة عدة، أهمها انفجار المرفأ في 4 آب 2020 وحجز أموال المودعين في المصارف وانهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع نسبة اللاجئين الى حدّ غير مسبوق، واستمر انتشار الفساد في القطاعين الخاص والعام. ونشهد اليوم ارتفاعاً في نسب بعض الجرائم وتكدّس الشكاوى والملفات القضائية واكتظاظ السجون، فيما قصور العدل خاوية بسبب اضراب معظم القضاة عن العمل. ولا شك ان مطالب القضاة محقّة، غير ان عدداً كبيراً من الموقوفين رهن التحقيق والمحاكمة بات يمكن توصيف وضعهم قانونياً بالموقوفين تعسفاً، ولا يمكن اخلاء سبيل أي منهم الا بعد عودة القاضي الى العمل.
يهزّ القاضي عويدات برأسه. يشعل سيجارة ويقول شاكياً: «كل مصائب الكون عندي».

ماذا تقول للناس الذين ينتظرون منك الحماية كونك مشرفاً على عمل كل النيابات العامة وانت من يراقب الضابطة العدلية اثناء قيامها بالتحقيق؟
- لم ادخل لعبة الاعلام لأنني اعتبر ان الاعلام في لبنان سلاح ذو حدين. لكن بدا لي ان هناك محاولات لنسف المؤسسات في لبنان وتصوير القضاء وكأنه المخلّص الوحيد. ولا بأس في ذلك. انا مع ان يكون القضاء هو المخلّص، لكنه يحتاج الى موارد غير متوفرة. فما الذي تغير منذ عام 2019 بالنسبة للقضاء حتى نحمّله المسؤولية؟ وما الذي تغير منذ عام 1990 غير ان صلاحيات مدعي عام التمييز تقلّصت في قانون أصول المحاكمات الجزائية؟ فمدعي عام التمييز يمكنه ان يحقّق، لكن لا يمكنه ان يلاحق احداً بحسب القانون. ما هو المطلوب مني؟ دور سياسي؟ دور قضائي بحت؟ او دور إصلاحي؟ يعني هل المطلوب من القضاء التعدي على صلاحيات مجلس الوزراء؟

(هيثم الموسوي)

يشرح عويدات ان الجسم القضائي «يُحمّل ما يفوق طاقته وامكانياته على تحمّله»، ويشكو غياب التخصص، معتبراً أن ذلك يشكل تحدياً أساسياً امام المحاكم. فوجود قضاة متخصصين في المجالات التقنية المختلفة يمكن ان يحل جزءاً كبيراً من المشكلة، اذ انه يتيح السير في التشكيلات القضائية على أساس الكفاءة العلمية والاختصاص التقني لا الانتماء الطائفي والمذهبي للعاملين في الجسم القضائي. ولا يعتقد عويدات ان معهد الدروس القضائية قادر على تخريج قضاة متخصصين. فمن يتخرج من المعهد «كمن يحصل على شهادة ليسانس ثانية في الحقوق مع بعض الثقافة القضائية واطلاع قانوني أوسع نتيجة خبرة المدرسين، ولا يشمل ذلك مساراً تخصصياً نحن في أمسّ الحاجة اليه في ظل التطوّر التقني للأساليب والحيل الجرمية».

«على النائب العام ان يطلق سراحه حكماً»

في ظل اضراب القضاة وتكدّس الملفات، ماذا عن الموقوفين قيد التحقيق او المحاكمة؟ ماذا تقولون لأم نجلها موقوف منذ مدة طويلة في قضية قضائية من دون تحديد مصيره؟
- أقول ان هذا توقيف اعتباطي وأسعى لمنعه من خلال التشديد على وجوب تطبيق القانون. فإذا «استأنفت النيابة العامة أو المدّعي الشخصي القرار القاضي بإخلاء سبيل المدّعى عليه أو بتركه أو باسترداد مذكرة توقيفه المخالفة للأصول، فإن الاستئناف يوقف إنفاذ القرار حتى البت فيه خلال مهلة أربع وعشرين ساعة. إذا انقضت هذه المهلة دون أن تتخذ الهيئة الاتهامية قرارها، فعلى النائب العام أن يطلق سراحه حكماً». (قانون أصول المحاكمات الجزائية، المادة 138). ومن خلال تطبيق هذه المادة أخلينا سبيل العديد من الموقوفين.
وكنت قد عممت توجيهات على النيابات العامة طالباً تجنب التوقيف الاحتياطي قدر الإمكان في قضايا حوادث السير وتعاطي المخدرات مثلاً، اذا كان ذلك لا يشكل خطراً على سلامة الاخرين. فبالنسبة لي، احتجاز حرية شخص ليس مسألة بسيطة، وقد يكون له أثر سلبي على جميع افراد عائلته. لذا لا بد ان يكون التوقيف فقط بحسب الحاجة وفي حالات تشكل خطراً داهماً.

هل استجاب قضاة النيابات العامة لطلبك؟
- استجاب بعضهم علماً ان وضع السجون كارثي حالياً بعدما زادت نسبة الاكتظاظ. نبحث دائماً عن سبل لتخفيف الاكتظاظ، وجاهزون لتقديم أي مساعدة في هذا الاطار. وقد اتممنا دراسة نحو 780 ملفاً لأشخاص يمكن ان يشملهم قانون عفو خاص يصدر عن رئيس الجمهورية. غير ان الرئيس لم يقرر على ما يبدو ان يصدر قانون عفو خاص حتى الآن. كان ذلك خلال بداية انتشار وباء كورونا في لبنان والقلق من دخول الوباء الى السجون.
- وقد نجحت الحكومة بمساعدة منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي في التعامل مع الوباء ومنع وقوع وفيات في السجون ولكن ...
كان للنيابات العامة دور أساسي في تأمين الخدمات الطبية والاستشفائية وتنظيم الزيارات وعقد جلسات عن بعد. كما عملت وزارة الداخلية والمديرية العامة لقوى الامن الداخلي بشكل مكثف لاحتواء الوباء والحفاظ على صحة الأشخاص المحتجزين.

ما موقفك بشأن حل مشاكل السجون، وما رأيك بمديرية السجون في وزارة العدل والجهود التي يقوم بها القاضي رجا أبي نادر؟
- لا اعتقد ان بإمكان وزارة العدل إدارة السجون في ظل النقص الحاد في الموارد الأساسية وبالموظفين، علماً ان القاضي ابي نادر يقوم بعمل ممتاز. لكن انشاء مؤسسة متخصصة لإدارة السجون امر يتناسب مع التخصص الذي اشرت اليه آنفاً. وقد يكون مفيداً دراسة موضوع خصخصة السجون ووضع ضمانات بأن يجري ذلك بشكل قانوني وعادل.
وكنت قد اقترحت تشييد سجون مؤقتة لتخفيف الاكتظاظ إلى حين الانتهاء من بناء سجنين كبيرين في الجنوب والشمال، غير ان ذلك لم يحصل.

تتفاقم المشاكل في السجون وتزيد صعوبة يوماً بعد يوم. ماذا تفعلون إزاء هذا الظلم؟
- أعلم ان عدداً من الجرائم التي وقعت خلال الفترة الماضية تم التخطيط لها وتنظيمها في السجون بكل اسف. وكما ذكرت آنفاً، طلبت من النيابات العامة تخفيف التوقيف الاحتياطي لمنع اختلاط الموقوفين بأشخاص محكومين ومحترفي الجريمة. وسعياً لتخفيف معاناة ذوي السجناء وبسبب اعتكاف القضاة، أصدرت اخيراً قراراً يتيح لآمري السجون منح اذونات الزيارة بالنسبة للموقوفين.
طلبت من النيابات العامة تخفيف التوقيف الاحتياطي لمنع اختلاط الموقوفين بأشخاص محكومين ومحترفي الجريمة


ما هي نسبة القضاة المضربين عن العمل في النيابات العامة التمييزية؟
- معظمهم، ولكن بعضهم يحضرون الى قصر العدل احياناً للقيام ببعض الأمور الطارئة. اما القضاة في سائر الدوائر فالعدد الأكبر منهم لا يحضر ابداً، وفي بعض الحالات وجدت نفسي مضطراً لتخطي صلاحياتي لأسباب إنسانية. فقد راسلت المديرية العامة للأمن العام لإلغاء بعض قرارات منع السفر مثلاً بسبب اعتكاف قضاة محكمة التنفيذ عن العمل، لأسباب إنسانية تتعلق بحقوق الناس. ولكن لا يمكنني تجاوز سلطة غيري وهذا امر لا احبذه.

قانون تعزيز حقوق الدفاع لا يطبّق

صدر قانون يرمي الى تعزيز الضمانات الأساسية وتفعيل حقوق الدفاع (القانون 191 تاريخ 16-10-2020) لكن يشكو بعض المحامين أنه لا يطبق. ما القصة؟
- أرسلت تعميماً بوجوب التقيد بما ورد في القانون، ولكن يبدو ان هناك مشكلة تتعلق بتأمين الموارد المالية الكافية لشراء التجهيزات الخاصة بتسجيل جلسات الاستجواب والتحقيق في المخافر. يقوم رتيب التحقيق احياناً باستخدام هاتفه الخاص وهذا امر غير مناسب. صحيح ان القانون لا يطبق بالكامل وهذا امر مؤسف، ولا بد ان تلحظ موازنة قوى الامن الداخلي هذا الامر.

«كابيتال كونترول» قضائي غير مقبول

ماذا تقول للناس الذين ينتظرون منك التحرّك لفك الحجز عن ودائعهم في المصارف؟
- لأكون صريحاً، القضاء مكبّل اليدين بقوانين. فالقانون لا يسمح لي باستجواب أصحاب المصارف التي صادرت أموال الناس، بل يمنح حاكم مصرف لبنان هذه الصلاحية. صحيح ان بعض القضاة تخطّوا صلاحياتهم في هذا الشأن من خلال ضغط مارسوه على المصارف وصل الى حد التهديد بإرغامها على فك حجز الودائع لتغطية كلفة استشفاء مثلاً. هذه ليست من صلاحيات القضاة بحسب القانون، وليس من صلاحيات القضاة منع المصارف من تحويل أموال او نقلها.

لكن الا يمكن اعتبار هذا الضغط إجراء احترازياً لمنع تفاقم المشكلات؟
- نعم، لكن اتخاذ الإجراءات الاحترازية ليس من صلاحياتي. يمكن ان احقق بالأمر لكن القانون منعني من الملاحقة.

القانون لا يسمح لي باستجواب أصحاب المصارف التي صادرت أموال الناس، بل يمنح حاكم مصرف لبنان هذه الصلاحية


لكن بصفتك مدعياً عاماً الا يمكنك اتخاذ أي خطوة لتحرير ودائع الناس؟
- منذ بداية الازمة عقدت اجتماعا في مكتبي هنا يوم الثلاثاء 10 آذار 2020 شارك فيه رئيس جمعية المصارف سليم صفير والنائب العام المالي القاضي علي إبراهيم ونديم القصار ووليد روفايل من جمعية المصارف. كما حضر الاجتماع المحاميان شهدان الجبيلي وكارلوس أبو جودة، ومن النيابة العامة حضر كذلك القاضيان ماري أبو مراد وصبوح سليمان. وطلبت من الحاضرين عن جمعية المصارف الالتزام بالنقاط الـ 7 التالية لمدة سنة على الأقل:
1. خطة التعامل مع صغار المودعين والتي تتمثل بسحب 25 مليون ليرة لبنانية شهرياً وما فوق
2. قبض الراتب بالليرة اللبنانية 100 في المئة وذلك فوراً وغب الطلب
3. دفع كلفة التعليم والاقساط في الخارج بالعملة الصعبة بعد تقديم المستندات اللازمة
4. تأمين التحويلات الضرورية في ما يتعلق بالمستلزمات الطبية وذلك بموجب تعميم مصرف لبنان
5. حرية التصرف الكامل بالـ Fresh money من ناحية السحب والتحويل
6. تأمين التحويلات اللازمة بالنسبة للمستلزمات الغذائية الضرورية غير المصنعة في لبنان مثل حليب الرضع
7. عدم تحويل أموال المودعين من العملة الصعبة (الدولار الأميركي) إلى الليرة اللبنانية من دون موافقة ورضى أصحاب الحسابات.
التزم الحاضرون من جمعية المصارف التقيد بالنقاط الـ 7 لمدة سنة على الأقل، وشددوا على أن علاقة الزبائن مع المصارف تقوم على مبدأ المحافظة على الثقة في هذا القطاع لأن مصلحة المصرف والزبائن والمواطن جزء لا يتجزأ والمصارف حريصة على سمعة لبنان.
لكن بعد الاجتماع، أُعيب عليّ من قبل بعض الوزراء في الحكومة انني تعديت على صلاحيات السلطة التنفيذية لأنهم اعتبروا ان النقاط السبع هي نوع من أنواع الـ«كابيتال كونترول»، ولا يحق للقضاء فرضه على المصارف. علماً ان رئيس الجمهورية كان قد اتصل بي خلال المرحلة الأولى من الازمة وطلب مني ان اسعى لمعالجة الامر.



توافق مفقود

هل تعتقد ان التحقيق في انفجار 4 آب 2020 سيصل الى نتيجة؟
- هذا الانفجار الرهيب يتطلب عناية مركزة ومنطقية وعلمية حتى لا يفسر بطريقة خاطئة. ولهذا السبب لجأت للخبرة الفرنسية منذ البداية، وحضر الى المرفأ نفس المحققين الفرنسيين الذين حققوا في انفجار مماثل وقع في تولوز عام 2001. وتنحّيت لاحقاً عن هذا الملف لأسباب معروفة.

صحيح انك تنحّيت عن النظر بملف انفجار مرفأ بيروت ولا تريد ان تتناول الموضوع، لكن في ظل الخلافات بشأن تعيين قاض رديف ما هو موقفك؟
- أنا ضد فكرة تعيين قاض رديف للنظر في ملف انفجار 4 آب، ولا اعتقد انها تتناسب مع القانون، غير انني اتفهم الامر من الناحية الإنسانية إذ ان ترك اشخاص موقوفين لمدة غير محددة في ظل تعطيل القضاء مخالف للقانون وهو امر غير انساني. عملياً، وفي ظل الوضع القائم، هذا الامر يحتاج الى توافق.