حرص قانون العقوبات، في مادته 567، على توقيع عقوبة الحبس من شهر الى سنة وبالغرامة على من كان عالماً بوجود أدلة تثبت براءة شخص موقوف أو موضوع محاكمة في قضية من نوع الجناية أو الجنحة، ولم يبادر تلقائياً الى الشهادة بذلك أمام القضاء أو سلطات الامن. كما حرص بموجب المادة 402/ عقوبات على إدانة جرم اختلاق الأدلة ممن كان سبباً في مباشرة تحقيق تمهيدي أو قضائي، باختلاقه أدلة مادية على جريمة يعرف أنها لم تقترف، ويعاقب عليها بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر وبغرامة. ومن قدّم إخباراً الى القضاء عازياً الى أحد الناس جنحة أو مخالفة يعرف براءته منها، أو اختلق أدلة مادية على وقوع مثل هذا الجرم، يعاقب بالحبس من شهر الى ثلاث سنوات، واذا أفضى الافتراء الى حكم بالاعدام أو بعقوبة مؤبدة فلا تنقص عقوبة الاشغال الشاقة عن عشر سنوات.
وقد اهتم قانون أصول المحاكمات الجزائية بالأدلة بشكل كبير، إذ أنه يُعنى بتنظيم الكشف على الوقائع الجرمية والأدلة توصلاً إلى تطبيق القوانين الجزائية. ووردت كلمة «أدلة» في هذا القانون في أكثر من 40 موضعاً، للدلالة على الأهمية التي يكتسبها الدليل الجنائي. فالدليل هو الواقعة المادية التي تثبت أو تدلّ بما لا يقبل الشك أن الواقعة ارتكبت من قبل الجاني، وهو الإثبات الذي يستند اليه القاضي لتأكيد انطباق حكمه مع العدالة.

القيمة الاثباتية (Probative value)
وجود بصمات المتهم في مسرح الجريمة ليس دليلاً كافياً للإدانة اذا ما كان وجوده مبرراً في المكان. ففي إحدى القضايا، اعتبرت محكمة الجنايات أنه ثبت لها ان المتهم كان يسهر في الملهى الليلي ليلة تعرض الملهى للسرقة، وان ذلك يبرر وجود بصماته على زجاج «الدرفة» المتحركة للمدخل الرئيسي لجهة الخارج. اذ انه من المنطقي والطبيعي ان يضع الزبون يده على باب مدخل الملهى عند دخوله اليه للسهر، فضلاً عن انه لم يتبين ان للمتهم أسبقيات بجرم السرقة، وهو غير محكوم بحسب سجله العدلي، لذلك قضت باعلان براءته من جناية السرقة. وللدلالة على أهمية الدليل، فإن للنيابة العامة أن تقرر حفظ أوراق التحقيق الأولي (أي إغلاق ملف القضية) اذا تبين لها أن الفعل لا يؤلّف جريمة، او ان الأدلة على وقوع الجريمة غير كافية.
وفي مثال آخر، قضت محكمة الجنايات، في أحد أحكامها، ببراءة متهم من جناية الاتجار بالمخدرات لعدم كفاية الدليل، خصوصاً انه لم يثبت ما ورد في كتاب المعلومات الصادر عن احد الأجهزة الامنية، والذي استقر الاجتهاد على عدم اعتباره بحد ذاته دليلاً كافياً لاثبات الجرم، ما لم يتعزز مضمونه بأدلة اخرى لتمكين المحكمة من ممارسة رقابتها عليه، الامر غير المتوفر في القضيّة.
ولكن، ماذا لو كان الدليل على الإتجار ثابتاً بموجب تصوير فيديو مجاز من قبل القضاء أو بموجب فحص علمي لمنزل المتهم ثبت خلاله وجود آلات تُستعمل للاتجار؟
لو كان الأمر كذلك، لما كان صدر قرار المحكمة بالبراءة لعدم كفاية الدليل، مع العلم أنه ثبت تعاطي المتهم للمخدرات بعد ضبط الحشيشة في حوزته، اضافة الى اقراره بالجرم مما أدى الى تجريمه بجرم تعاطي المخدرات.
وفي حكم آخر صادر عن القضاء، برّأت محكمة الجنايات المتهم من جناية السرقة الموصوفة عن طريق التهديد بالسلاح لانتفاء الدليل. اذ لا يمكن للمحكمة الاخذ بأقوال المدعي كدليل في الاثبات ما لم تتعزّز بأدلة أخر. ومن صلاحية النائب العام إجراء التحقيقات الضرورية لجمع المعلومات المفيدة عن الجريمة، وعليه ان يثبت في المحاضر التي يضعها كل الاجراءات التي قام بها، كما يتوجب على الضابطة العدلية وعليه ان يدعي في الجريمة المرتكبة في حق من توافرت الادلة او الشبهات حول اسهامه في ارتكابها.

الدليل ليس رمادياً
توافر الأدلّة لا يمكن ان يكون رمادياً. فالنيابة العامة قد تدّعي أحيانا بوجه من تشتبه به فقط مجرد اشتباه. وهنا يأتي دور الدليل ليثبت امام قاضي التحقيق صحته او انتفاؤه. اذ إن وجود الدليل أو اثباته يقتضي أن يكون فعل بداية وفعل استمرار، بمعنى أنه يقتضي أن يكون دليلاً كافياً كفاية لا تقبل الشك، أي صالحاً للإدلاء به طيلة المحاكمة وأمام جميع المراجع القضائية. وحتى أمام الهيئة الاتهامية، يجب أن يكون الدليل ثابتاً بقوة في معرض استئناف قرارات قاضي التحقيق أمام الهيئة الاتهامية التي اذا وجدت أن الادلة غير كافية للاتهام، او ان العناصر الجرمية غير متوافرة، تقرّر منع المحاكمة عن المدعى عليه.
ويقتضي دائما اتباع الوسائل المشروعة اثـناء قيام الضابطة العدلية بالاجراءات التحقيقية، لهذا تصحّ الإجراءات الجنائية حين يضم فريق العمل أو حين يستعين بمن يُطلق عليهم: فريق مسرح الجريمة أو الحادثة. ولهذا، فإن القانون نص في جرائم المعاملات الالكترونية على وجوب أن يؤازر مكتب متخصص الضابطة العدلية في ضبط الادلة المعلوماتية.
وفي جرائم المعلوماتية أيضاً، يعود للمحكمة تقدير الدليل الرقمي او المعلوماتي وحجّيته في الاثبات، ويشترط ان لا يكون قد تعرّض لأي تغيير خلال عملية ضبطه او حفظه او تحليله، وفق أحكام قانون المعاملات الالكترونية. لهذا ينص قانون أصول المحاكمات الجزائية على وجوب ضبط ما يعثر عليه من مواد جرمية او أشياء ممنوعة والاستعانة بالخبرة عند الاقتضاء.
ووفق المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، عند قيام الضباط العدليين، بوصفهم مساعدي النيابة العامة، بالمهام التي تكلفهم النيابة العامة بها وجمع المعلومات عنها والقيام بالتحريات الرامية الى كشف فاعليها والمسهمين في ارتكابها وجمع الادلة عليهم، بما يستلزم ذلك من ضبط المواد الجرمية وإجراء كشوفات حسية على أماكن وقوع الجرائم، يستعمل القانون عبارة: «وفق دراسات علمية وتقنية على ما خلفته من آثار ومعالم».
كما أن على قاضي التحقيق إطلاع المدعى عليه على الأدلة المتوافرة لديه ليتمكن من تفنيدها والدفاع عن نفسه وفق أحكام المادة 76 من القانون، وذلك يكون بمعرض مناقشة الأدلة ومقايستها. فحين يكون الدليل أمراً مادياً علمياً لا يمكن تفنيده الا بالعلم الجنائي، واذا قدّر قاضي التحقيق ان ما تجمع لديه من ادلة في الدعوى يكفي لمنع المحاكمة عنه ينهي التحقيق. فكيف يقدّر قاضي التحقيق ذلك؟ الأمر ليس استنسابياً، بل هو نتيجة تمحيص للدليل بأنه غير كاف للإدانة، وذلك يكون أيضا بالعلم، حيث يعود للمحكمة حق تقدير الأدلّة، والشك في الدليل يقتضي تفسيره دائماً لمصلحة المتهم.

الاحكام تبنى على اليقين
القاعدة التي تحكم عمل المحاكم هي أن الاحكام لا تبنى على الشك بل على الجزم واليقين، وانه يجب أن تتكون لدى المحكمة القناعة اليقينية الكاملة بنسبة الجرم الى المتهم.
أما عن كيفية شك المحكمة في الدليل، فيقع حين لا تثق المحكمة بأن الدليل المدلى به يؤدي الى اثبات تجريم المتهم. فقد اعتبرت محكمة الجنايات «ان وجود المتهم داخل التخشيبة لا يعتبر دليلاً كافياً على توافر القناعة اليقينية للمحكمة عن نية المتهم بالسرقة»، ومن جهة ثانية «عدم ثبوت ان المتهم هو من خلع وكسر اللوح البلاستيكي العائد لشباك مدخل التخشيبة»، وأخيرا لسبب ان «الهدف من تقديم الشكوى ضد المتهم المفترض المتشرد هو ابعاده عن الحضور او التردد الى التخشيبة». في المجمل، اعتبرت المحكمة ان الشك يقتضي تفسيره دائما لمصلحة المتهم. (منشور على موقع الجامعة اللبنانية - مركز الابحاث والدراسات في المعلوماتية القانونية).
استقر الاجتهاد على عدم اعتبار كتاب المعلومات الصادر عن احد المراجع الامنية بحد ذاته دليلاً كافياً لإثبات الجرم ما لم يتعزّز مضمونه بأدلة اخرى


وفي حكم صادر عن محكمة الجنايات، لم يثبت اتهام شخص بسرقة إلا بموجب افادة صادرة عن متهم آخر لم تعزّز بأي دليل اضافي، وكانت النتيجة الحكم بالبراءة لعدم كفاية الدليل، في حين أن المحكمة نفسها حكمت بالإدانة لأنه ثبت لديها كيفية حصول السرقة بالدخول عن طريق تغيير قفل المحل، واثبات الضابطة العدلية لوقائع ودلائل وبصمات المدعى عليهم.
وفي أحد الأحكام، قضت محكمة الجنايات ببراءة المتهم بجرم تزوير وترويج عملة مزورة لعدم كفاية الدليل، اذ ان وسيلة الاثبات الاساسية في الملف كانت افادة عامل محطة المحروقات الذي لم يتمكن من التعرف إلى المتهم بشكل اكيد.
الأدلة هي الإثباتات والبيّنة، ويقتضي أن لا تقبل الشك، فإما الدليل الجنائي الدامغ وإلا البراءة للشك وعدم كفاية الدليل.