عام 2011، فتح لبنان أحضانه للسّوريين الفارّين من ويلات الحرب. فصار ملجأ للبعض، ومحطّة عبور إلى الخارج للبعض الآخر. بحسب المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلغ عدد اللاجئين السوريين في لبنان المسجّلين لديها 831,053 لاجئاً بحلول حزيران الماضي، طبعاً عدا لاجئين غير مسجّلين في المفوّضية ولا يملكون وثائق إقامة. التقديرات الحكومية تشير إلى وجود 1.5 مليون لاجئ سوري و13,347لاجئاً من جنسيات أخرى. ويُذكر أن الحكومة اللبنانية قرّرت في أيار عام 2015 تعليق عملية تسجيل المفوضية للاجئين السوريين في لبنان، ما يعني أنه لم يتم إجراء أو إضافة أيّ عمليات تسجيل أخرى منذ ذلك الحين، باستثناء الأطفال الحديثي الولادة الذين تمت إضافتهم إلى ملفات ذويهم المسجّلين سابقاً.منذ مجيئهم، تعرّض الكثير من النازحين السوريين إلى عنصرية فادحة من لبنانيين، باختلاف آرائهم في ما يخصّ الأحداث في سوريا ونظامها. وازدادت العنصرية حدّة أخيراً جرّاء الأزمة الاقتصادية وتحميل السوريين مسؤولية مضاعفة الضغوطات الاقتصادية على البلاد.

المغادرة... بأيّ طريقة
يعيش اللاجئ السوري في لبنان الظروف الصعبة ذاتها التي يعيشها اللبناني، بل أسوأ منها في كثير من الأحيان. تتحدث عائشة التي لجأت إلى لبنان مع بداية الأحداث في سوريا عن «البؤس» التي تعيشه في مخيم صبرا في غياب الكهرباء لأسابيع، تشكو «العتمة، وتحوّل البراد إلى خزانة وبالتالي عدم القدرة على تعبئته بالأطعمة، ولجوئها إلى جارتها لشحن هاتفها...».
أما مصطفى فيشبّه لبنان بسوريا «لكن من دون ضرب رصاص». الغلاء الذي يطاول إيجار الشقق والغذاء والدواء… في البلد الذي لجأ إليه «لم يعد يُحتمل». يعمل مصطفى في أحد المعامل مقابل ثلاثة ملايين ليرة شهرياً «مجبراً». فهو يعاني ديسك الظهر، وطلب منه الطبيب أن يستريح لفترة. لكن، «إذا توقفت عن العمل كيف نأكل؟ لن أقول كيف نشتري الدواء لأن ما أتقاضاه لا يكفي لشراء المسكّنات وإسكات آلام الظهر».
يسعى السوريون للمغادرة بأيّ طريقة. هناك من يتقدّم بطلب لجوء إلى دولة ثانية، وهناك من يئس البقاء في لبنان فصعد على مراكب «الموت» مع اللبنانيين والفلسطينيين ليهاجر بطريقة غير شرعية إلى أوروبا. وهناك من يقصد تركيا للغرض ذاته. ومنهم من ينتظر.
عام 2021، «أحال لبنان أكبر عدد من الحالات لإعادة توطين السوريين في دول ثالثة ليحتلّ المرتبة الثانية على مستوى العالم. وقد غادر 6,246 لاجئاً إلى 17 دولة آنذاك من بينها فنلندا وألمانيا والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة»، كما تقول المفوّضية لـ«الأخبار». وتضيف أنه «في عام 2022، بحلول شهر نيسان، غادر1,769 لاجئاً إلى 14 دولة مختلفة: الأرجنتين وأستراليا وكندا وفنلندا وفرنسا والمملكة المتحدة وأيرلندا وهولندا والنروج ونيوزيلندا وإسبانيا والسويد وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية».

على لائحة الانتظار
تؤكد المفوّضية أن «طلبات اللجوء إلى بلد آخر كبيرة جداً». وهذا طبيعي نظراً «إلى الأزمة الحرجة التي يعيشها لبنان ودفعت 90% من اللاجئين السوريين للعيش في حالة فقر مدقع مع عدم قدرتهم على العودة إلى وطنهم الأم لعدة عوامل». إذاً، ترى المفوّضية أن «حصص إعادة التوطين تنقذ الأرواح وتوفر الفرص لبدايات جديدة»، لكنها تبقى «محدودة للغاية». وتلفت إلى أن «عملية إعادة التوطين تتضمّن مراحل متعدّدة وتخضع لعدة تقييمات ومقابلات، والبلد المضيف هو صاحب القرار في قبول الملف أو رفضه»، علماً أن «الأولوية للفئات الأكثر ضعفاً بناءً على معايير إعادة التوطين العالمية».

في مفوّضية اللاجئين
بعيداً عن أرقام طلبات المغادرة واللجوء إلى بلد آخر، زيارة للمفوّضية في محلة الجناح تحكي عن رغبة جامحة في المغادرة. ينتظر عشرات السوريين ما بين عائلات وأفراد تحت الشجرات، على الحافة، يسندون الحائط، حتى يناديهم الموظف، فيهرعون إلى الجهة المقابلة، ويصطفّون لأخذ بطاقات صغيرة تحمل أرقاماً. وعندما يدخلون مبنى المفوضية ينادونهم بأرقامهم بعد انتظار ساعات إضافية.
سبب زيارة غالبيتهم تجديد الملف والحصول على البطاقة للاستفادة من التقديمات، إذ تقدّم المفوضية بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة وجهات أخرى شهرياً تقديمات مالية ومساعادات غذائية «تشمل 88% من مجموع اللاجئين السوريين مع حلول أيلول الماضي». وفي ضوء الأزمة الاقتصادية والتضخم المالي الحاصل في لبنان، «رفعنا، ابتداءً من شهر أيلول الماضي قيمة التقديمات من 400 ألف ليرة شهرياً للعائلة الواحدة إلى مليون ليرة، وقيمة المساعدات الغذائية من 100 ألف شهرياً عن كلّ فرد بالعائلة إلى 500 ألف».

«تأمّلنا عالفاضي»
مع كلّ اتصال من المفوّضية، يتجدّد أمل السوريين بإعادة الترحيل. هم لا يوفّرون في كلّ مقابلة تجديد «الحلم بالسفر». مثل تاكسي المطار، أنشأ سائقو الأجرة صفاً عند باب المفوّضية: «معقل الركاب كلّ يوم، خاصة بين التاسعة والحادية عشرة قبل الظهر». يركنون سياراتهم بانتظار أدوارهم لتوصيل الخارجين من المفوضية ممّن ينقسمون إلى قسمين، بحسب أحدهم: «قسم فرح بقبول طلب الهجرة، وآخر تعيس لأن اسمه لم يأت بعد للمغادرة».
أحال لبنان أكبر عدد من الحالات لإعادة توطين السوريين في دول ثالثة


عندما اتصلت المفوضية بمحمد ظنّ أنه و«أخيراً، دعتني فرنسا إليها». لكنه، «تأمل عالفاضي»، كما يقول، لأن الغاية تجديد ملفه ليس أكثر. خيبة زوجته كانت أكبر، «فأنا متأملة أن ينادوني ليأخذوني من هنا». تخرج بصحبة ابنها. بصوت ضعيف، تجيبه عن سؤاله: «ماذا جرى في الداخل؟»، «ما صار شي، وما فهمت شي، وما استفدت شي». لم تعد هذه السيدة تطيق العيش هنا، كما «فرطت سبحة الآمال بمستقبل أفضل لأبنائي الثلاثة».

الشهادات «مثل قلّتها»
بين الواقفين شاب يجمع الثقافة والتعليم والفقر. تلحظ ذلك من خلال هندامه ووقفته ونظارته المكسورة الإطار. اسمه محمد رحال. وعند كنيته يقف حلمه: «الترحال إلى أي بلد أوروبي أعيش فيه بكرامة». منذ عامين أفصح للمفوضية عن حلمه وانتظر سنة ونصف سنة حتى حصل على موعد لتقديم المستندات المطلوبة ولا يزال ينتظر الموافقة. يتأسف: «أعرف أن هناك من ينتظر الخروج منذ عام 2015. لكنني وزوجتي نملك مؤهلات علمية ظننا أنها ستكون خشبة الخلاص، لكننا أخطأنا». يحمل محمد شهادة في الهندسة الزراعية وزوجته تحمل شهادة في الصيدلة. لم تساعد هذه المؤهلات الزوجين في الحصول على عمل يؤمّن العيش الكريم. الزوجة عاطلة من العمل والزوج يقصد الساحة حيث يسكن شمالاً ويقف مع العمال بانتظار من يطلب عتالاً أو عامل بلاط أو دهاناً. أما سبب زيارته المفوضية فهو الحصول على البطاقة الحمراء للمعونات التي تُقدّم للاجئين. يكره كلمة لاجئ ويحمل على المجتمع اللبناني «العنصري الذي استغثت به من ظلم دولتي فعاملني بظلم من نوع آخر ورفض أن يراني غير لاجئ». برأيه، «المجتمع الأوروبي سيكون حضناً أدفأ من المجتمع العربي عامة واللبناني خاصة».