سؤالٌ دونه الجواب غير المنفصم. نعم، في انفصام شخصيتنا القانونية، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ تلك الهوّة السحيقة بين دستورٍ أعطى حرية المعتقد صفة الإطلاق (في المادة 9 منه)، إضافةً إلى قانونٍ اعترف، ليس فقط بالطوائف «التاريخية»، وإنما أيضا بطائفة القانون العادي (القرار 60/ل.ر.)، من جهة، وبين ممارسةٍ تدّعي المدنية على حين استعراض، وتحاربُ تلك المدنية على حين استحقاقٍ، من جهةٍ أخرى. هكذا نحن في آنٍ واحد: نسبح في فضاء الحرية دستوراً ونغرق في مستنقع الممانعة سجناً. والأسوأ من هذا الانفصام المَرَضيّ أن مجرّد الاختيار ليس خياراً: حتى أن تواضع المطالبة إلى حدّ قانونٍ إختياريّ للأحوال الشخصية (لا إلزامي، كما في تونس، مثلا) جوبهت ولا تزال بتعنّتٍ وتمسّكٍ بخيارٍ أوحد: إلزامية الانتماء، وكأن الاختيار يمنع الانتماء، أو لكأن منحَ أبناء لبنان وبناته حقهم وحقّهنّ المكرّس دستوراً ينتقص من أية حقوقٍ مكرّسة أيضاً لأبناء الممانعة. منذ بضعة أسابيع، عقد لبنانيان (عمر عبد الباقي ونجوى سبيتي) زواجهما المدني «أونلاين»، وهما في لبنان، وفقاً لقوانين إحدى الولايات الأميركية. وقبلهما، وعلى الرغم من رفض الدوائر الرسمية تسجيل الزيجات المدنية المعقودة في لبنان، أصرّ عبدالله سلام وماري - جو ناصيف أن يمارسا حقهما تماماً كما فعل، بدايةً، نضال درويش وخلود سكرية وعددٌ من المؤمنين بالحق المدني الذي رأت الهيئة الاستشارية العليا في وزارة العدل صوابية تكريسه وممارسته. كل هؤلاء مواطنون ومواطنات يتمسكون بالحق ضامناً وخياراً، وهم في ما هم عليه ليسوا إلغائيين، فلماذا يُجابهون بغير حق وبغير هذا الحق؟ إذا كانت أحوالنا الشخصية تشبه تنوّعنا، فالأجدى ترجمة هذا الشبه في كل ما هو عليه، فتنتصر «الطائفة 19» لوجودها، لا ضدّ زميلاتها الـ18. لكل طائفةٍ قوانينها؟ لكلّها إذن، من دون تمييزّ!
في زمن عولمةِ الحقوق التي تعبُرُ الحدود حرّةً، فكرةً ومبادئ وتكريساً، يأتيك «القوس» مذكراً بهذه الحقوق في عددٍ خاص يعود إلى الأساسيات ويلقي الضوء على مسألةٍ لا يجوز أن تقعَ في الغياهب. مسألةٌ في صلب الحق الإنساني وفي صلب الحالة المطلبية الحقوقية. مسألةٌ لا شكّ عندي بأن خواتيمها ستكون سعيدة مهما طال زمن الامتناع عن الحق. وفي هذه الأثناء، نستمر نقرأ في «القوس»، ومعه ومع مجموعةٍ من المبادرين والمناضلين أمثال لور مغيزل وطلال الحسيني ورفاق لهم كُثُر، نستمر نقرأ قصّة الانتقال إلى حالةٍ مدنية غير إلغائية، وإنما ترفض إلغاءها، حالة ترغب بقوة أن تكون أحوالنا الشخصية بمنأى عن الانفصام وبمنأى عن الاستنسابية وبمنأى عن كل ما يعكّر صفوَ الاجتماع اللبناني الغني بتنوّعه. ولأن القانون ينبغي أن يتماهى مع الحق، فإن الأخير يبقى عالياً ولا يعلوه قانونٌ مهما جار ومهما طال جَبرُه...
كيف حال أحوالنا الشخصية؟ ليست بخير، تماماً كما أحوالنا الوطنية. وبين هذه وتلك، ينتصبُ شعبٌ على يمين القوس، يدافعُ عن مجتمعٍ أنهكته الأزمات، لأنّ الانكفاءَ ليس بقَدَر ولأن «الانتصار يعطى لمن حلم به يوماً»...