تستحضر كلمة «بوليس» في المنطقة العربية فكرة القمع والبطش. تستعمل السلطة الشرطة كـ«بعبع» لحماية الأنظمة وقمع معارضيها، لا لانفاذ القوانين وخدمة المواطنين. وغالباً ما تُستخدم الشرطة كسلطةٍ نفعية في الاطار الزبائني مبتعدة كل البعد عن مبدأ إحقاق الحق وحل المشاكل.
انقر على الصورة لتكبيرها

لكن، تظهر أحياناً بعض الإيجابيات في القُرى والأرياف والاحياء الشعبية، حيث المخافر ومراكز الشرطة بعيدة عن السلطة المركزية للدولة وتأثيراتها المباشرة، فتصبح الأجهزة الأمنية ملتصقة نوعًا ما بالناس بحكم العلاقات الاجتماعية، وبعض مظاهر الدولة المتمثلة بالدرك والشرطة البلدية والمخاتير. وفي بعض الأحيان، يَحضُرُ المختار عملية تطبيق القانون بحكم قربه من النسيج العائلي، فيصبح المخفر هو المكان الصحيح لِحلِّ النزاعات، ويتكامل دور الشرطي مع المختار، فيتحول إلى نسخةٍ عنه ببزةٍ رسمية. إلّا أن هذه المبادرات تبقى فردية ولم تسعَ الدول العربية الى ترسيخها، وكلّما اقتربنا أكثر من القبضة المركزية لسيادة الدولة كُلّما دخلت المصالح الشخصية والطائفية، وازداد مستوى الفساد الذي تحول إلى «ثقافةٍ عامة» أكثر منه ظاهرة طارئة تستدعي معالجتها بشكلٍ موضعي، ما يقودنا إلى الصورة التي قُدِّمَ فيها البوليس في الانتاجات الأدبية التي تعكس ثقافة الدولة لدى مواطنيها.

«أدب» الشرطة
تحمل صورة رجل الشرطة في الرواية العربية إشكالية كبيرة لارتباط هذا الرمز بالنظم السياسية. وهذا ما يبدو جليًا في الاعمال الأدبية التي صدرت في مصر منتصف القرن العشرين، والتي لم تختلف في المشكلات التي عالجتها عن الأدب الحديث، سوى بقدرة الاخير على الوصول إلى الناس بشكلٍ أوسع بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. اذ لم يُقَيَّض لكُتَّابٍ كبار كنجيب محفوظ ويوسف إدريس الاستفادة من تويتر والفيس بوك للتأثير في جيلهم، على عكس أدباء معاصرين كعلاء الأسواني وإبراهيم عبد المجيد ممن توسَّعوا في تقديم مادة غنية تفوق الـ 144 حرفاً التي قُيِّدَ بها جيل ناشطي الـ«سوشيال ميديا» على تويتر، ما أجبر الكاتب على «نحت» النص، ليصبح قابلًا للقراءة وفق الطريقة التي يستسيغها قرَّاء القرن الواحد والعشرين: بوست قصير ومعلومة مباشرة.
ترتبط الروايات السياسية والروايات البوليسية التي تعالج الجريمة ارتباطًا وثيقًا برجل الأمن وأجهزة حفظ النظام، ومن ضمنهم رجل الشرطة أو البوليس الذي يظهر ببزته العسكرية متجوِّلًا في الشوارع لتسيير المرور، ويسطِّر محاضر الضبط، ويلقي القبض على المجرمين، أو يطرق بعصاه قضبان الزنازين.
البدلة العسكرية هي رمز للدولة ومظهر للقانون الكافل لحرية المواطن والضامن لتطبيقه الواجبات. لكن ما هو شكل هذا القانون الذي يقوم البوليس بحمايته والسهر على تنفيذه؟ الأجهزة الأمنية تقوم بخدمة الأنظمة وفق القوانين التي تضعها الشعوب لنفسها، ولكن هل يبقى هذا القانون على حاله في الدولة القمعية؟ أو في دولةٍ دكتاتورية لا يرى فيها الدكتاتور من قانون إلّا ما ينطق عن هواه، وحيث يصبح رجل الأمن أو البوليس صورةً نموذجية عن هذا القانون.
موقف الكاتب من النظام السياسي عامل أساسي في رسم بنية شخصية الشرطي في روايته. فكثير من الكتَّاب المعارضين كان مصيرهم السجن أو النفي، وفي بعض الحالات القتل أو الإقامة الجبرية، على عكس الكتاب المحسوبين على الأنظمة التي يكتبون لها ومن أجلها. لذا نرى أنَّ الكثير من التقنيات المستعملة، والتي تتنوع أهدافها بين التغطية على الموقف الحقيقي أو الأسماء الحقيقة، وبين الترويج لالعدالة والانصاف وميزات النظام، كتقنية العالم الموازي. بعكس الروايات التي عالجت مواضيع الجريمة، وقاربت الواقع بطريقةٍ وصفية للأحداث بالظاهر، إلّا أنها حملت الموقف السياسي للكاتب من النظام والقانون والعدالة والمجتمع، كرواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ.

صورة الضابط
يأخذنا الكاتب المصري يوسف إدريس في روايته "العسكري الأسود" (1962)، إلى زمن تطبّق فيه الأحكام الفرعية وتكمّم فيه الأفواه، وينتشر فيه البوليس السياسي، ليُظهر في سير الأحداث بأنّ السلطة هي التي حوّلت "عباس" من عسكري بسيط إلى مجرم مجرّد من إنسانيته، يتلذذ بتعذيب السجناء لإرضاء رؤوس السلطة. وهي نفسها التي حوّلت "شوقي" الطبيب، المثقف الثائر، إلى شخص وضيع وسارق، بعد أن عذّبه العسكري وأهان كرامته. ليضعنا أمام تساؤلات عن عدد السجناء أمثال شوقي الذين تبدّلت شخصيّاتهم وتشوّهت أرواحهم ورُدمت أحلامهم في السجون؟ وعن عدد الجلّادين أمثال عباس الذين يشعرون بتأنيب الضمير ويجلدون أنفسهم كل يوم إلى حد الجنون!
أشار إدريس بأنّ العذاب الذي يفرضه بشري على آخر سيرتد عليه لا مُحال "أتعرف أنّك حين تؤذي غيرك، تؤذي نفسك دون أن تدري؟"
تحمل صورة رجل الشرطة في الرواية العربية إشكالية كبيرة لارتباط هذا الرمز بالنظم السياسية الموجودة


«كانت المقاومة لنا فقط، شركة ضخمة يديرها خيرة ضباط الشرطة» (ص.36). بهذه الكلمات قدّم لنا الكاتب المصري محمد ربيع في روايته «عطارد» (2015)، صورة الشرطي المتمثّلة بالضابط أحمد عطارد الذي ترك السلك لينضم إلى مجموعة من زملائه الضباط وبعض المدنيين الذين رفضوا العمل تحت قيادة المحتلّ، لتُصبح المقاومة أشبه بشركة ضخمة يديرها ضبّاط شرطة قدماء اعتبروا أنفسهم «الأساس» في الدولة، وأنّ ضبّاط الجيش والمواطنين العاديّون هم على الهامش. ظهر «عطارد» نموذجاً درامياً متقناً لشخصية ضابط الشرطة الذي يتأرجح بين حماسته ونزعته الوطنية، وبين احتقاره للشعب، وبين قدرته على قنص وقتل كل الضبّاط والناس الذين لم يقاوموا المحتل، وبين رغبته الحقيقية في نصرة المظلوم وإحقاق الحق. كان واضحًا أنّ ربيع، في روايته هذه، صوّر مقاومة الشرطة لـ «ثورة يناير» بقالبٍ خيالي على أنّها تمهيد لإنهاء سطوة الشرطة في البلد في نهاية الأمر.

أداة للتعذيب
«التعذيب مش خطأ، دَه جريمة. كما أنّ كشف الحقيقة عمره ما يسيء لأي حد. اللّي يسيء للشرطة، وجود ضبّاط مجرمين بيعذّبوا الناس وبيفلتوا من العقاب». يوثّق الكاتب المصري علاء الأسواني في روايته «جمهورية كأنّ» (2018) أحداث «ثورة يناير» بحسب رؤيته. نرى في سير الرواية أنّ الشرطة هي مَن فتحت السجون، واعتقلت الكثير من الثوّار وتفنّنت في تعذيبهم، كاسرًا بذلك فكرة «قدسية المؤسسة العسكرية» في العالم العربي، فيَظهر لنا أنّ أمن الدولة، والمخابرات، والجيش، والشرطة، وحتى القضاء في مصر، جميعهم أداة لخدمة السلطة والحاكم، مبرزًا أيضًا الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسات الإعلامية التابعة للسلطة في ضخ الأخبار بحسب روايتها الخاصة.
تتلاقى روايتا ربيع والأسواني عند النقطة نفسها، في اندحار الشرطة وتسلّم الجيش زمام الأمور.
«انسحاب الشرطة متعمّد.. الشرطة قرّرت أن تُعاقب الشعب على الثورة، بأن تنسحب من أجل إحداث فوضى في البلد» (ص. 309). يُذكر أنّ «جمهورية كأنّ» مُنِعت من النشر في مصر، فتمّ إصدارها عن دار الآداب اللبنانية في بيروت.



محاصصة البوليس في لبنان
في لبنان، تتوزّع الأجهزة الأمنية العاملة فيه، على تنوعها، حصصاً طائفية: مدير عام قوى الامن الداخلي مسلم سني بينما مدير عام الامن العامش مسلم شيعي ومدير عام امن الدولة مسيحي كاثوليكي، وقائد الجيش ومدير المخابرات مسيحيان مارونيان ورئيس الأركان درزي. كما أن الوحدات والشعب والالوية في هذه المؤسسات تتوزع بحسب نظام المحاصصة على الطوائف والمذاهب: مثلاً وحدة شرطة بيروت قائدها مسلم سني، وحدة الشرطة القضائية قائدها درزي، وحدة الدرك الإقليمي قائدها مسيحي ماروني، وحدة امن السفارات قائدها مسلم شيعي، وحدة القوى السيارة قائدها مسيحي… الى آخره. وبما ان القيادات موزعة كحصص للطوائف والمذاهب فلا شك في انها تسعى لحماية وتثبيت مصالح تلك الطوائف والمذاهب حتى لو بالقمع، وكل ذلك تحت ستار القانون، وبحجَّةِ الحفاظ على التوازن الطائفي.


خدمة أو سلطة؟

(هيثم الموسوي)

البوليس يمثّل السلطة ويجسّدها. لكن إذا نظرنا إلى البوليس على أنَّه خدمةً للمواطنين، مثله مثل الخدمة الطبية، فقد تنقلب الموازين النفعية والنتائج المستفادة. وقد يلتزم الأفراد اكثر بالقانون لاقتناعهم بجدواه وعدالته، وتتعزز مكانة السلطة بفضل جودة الخدمة لا بواسطة القمع والتخويف والترهيب.
من أدنى مقوِّمات العدل أن تُنصِفَ الدولة مواطنيها بتقديمها خدمات أمنية بجودةٍ عالية، وبتعزيز الاستقرار الأمني والقانون العادل، لتصنع مكانة «الدولة»، من دون حاجة إلى القمع و«تكسير الروس» والزج في السجون. فالاحترام الصادق للسلطة يأتي من احترام السلطة للناس، لا من الخوف والترهيب والقلق.


بوليس المنشورات
عندما تكون تهمة الكاتب «فضح أسرار حكومية» تكون كتاباته ممنوعة من النشر، كما حدث مع رواية «وليمة لأعشاب البحر» (1983) للكاتب السوري حيدر حيدر. وهي رواية سياسية تدور أحداثها في العراق والجزائر، وتحديدًا حول «الثورة الجزائرية». وقد مُنع هذا العمل لأسباب سياسية، ككلام الكاتب عن أحد القادة العراقيين، كما اعتُبِرت مشاكل الكاتب مع الحكومة السورية السبب الفعلي لِمنع روايته ومنعه من دخول سوريا أيضًا. لكن لم يأبه كثيرون بالمعنى السياسي للرواية، بل اهتمّوا بالتطاول الديني الذي استخدمه الكاتب، وهذا ما جعل الأزهر يحظر الرواية. كذلك مُنعَت رواية «الحرب القذرة» (2003) وهي شهادة لحبيب سويدية، الضابط السابق في القوات الخاصة في الجيش الجزائري، تناول فيها المجازر التي وقعت في الجزائر في فترة التسعينيات، حيث اتّهم سويدية ضبّاطًا في الجيش بالضلوع فيها.
وفي خماسيات «مدن الملح» (1984)، قدّم الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف تصوّرًا للحياة مع بداية اكتشاف النفط والتطوّرات الكبيرة التي شهدتها مدن وقرى الجزيرة العربية إثر ذلك. إلّا أنّ منيف استبدل اسم المملكة العربية السعودية باسم «موران»، كما استبدل النفط بالملح. رغم ذلك منعه البوليس السعودي من دخول أراضيه ومِن نشر الرواية بسبب اتجاهها وموقف منيف المعارضَين لسياسة المملكة.
أمّا رواية «أولاد حارتنا» (1959) للأديب المصري نجيب محفوظ، والتي تم التنويه بها عند نيله جائزة نوبل للآداب (1988) فقد مُنِعت بعد أن واجه محفوظ اتّهامات بالكُفر والتعدّي على المقدسات الدينية، كما اعتبرت السلطات أنّ الرواية تحمل استحقارًا وتعديًا مباشرًا على دورها في إدارة الدولة.