ترسم المقاومة في لبنان اليوم، ببراعة فائقة، فضاءات الانتظام العام في مشهدية النفط والغاز البحرية، من خلال النهوض بلبنان إلى مستوى القدرة والفعل والقوة، وتثبيت الحقوق الوطنية، وعدم الرضى بالفتات الذي يريد أن يتركه لنا الآخرون.معركة الحقوق البحرية التي تخوضها المقاومة في عيد أربعينيّتها ضد العدو محدّدة المعالم وثابتة وشديدة الوضوح في سياقاتها وأهدافها. وفي المقابل، أزمة ارتباك وصدمة وعدم يقين لدى مجموعة من الشخصيات والقيادات والأحزاب، أمام ما يجري بحرياً. فهذه فئة اعتادت أن تعكس توجّهات السفارات الغربية، وتعتبر نفسها محظيّة بالاطّلاع، وما يتبعه من تظهير للموقف وتسويقه على أنه الأفضل وأقصى ما يمكن الحصول عليه...
هذه الدونية المَقيتة التي تُغلَّف زوراً بالواقعية السياسية، تبرز انعداماً للكرامة الوطنية، وتتّكئ على مقولة غاية في الانهزامية، مفادها أن ما نحصل عليه مهما كان قليلاً يكفي لحلّ أزمتنا الاقتصادية، لأننا لا يمكن أن نقف في وجه الكبار أصحاب النفوذ والسلطة. وهنا مكمن السقوط الكبير الذي إذا ما أردنا استعماله أداة قياس عامة للمواقف، سيتضح لنا سبب الإخفاق المستمر في بناء الدولة والحفاظ على المؤسسات العامة والثروات الوطنية والكرامة الإنسانية للشعب اللبناني، ويتضح معه عمق الزبائنية السياسية القائمة على تلبية المطالب الخارجية على حساب المصالح الوطنية.
فعندما تختزل الوطن بمصالح الزعماء، تدرك أين هي مكامن الخراب الداخلي، ولماذا هذا الاجترار السياسي للفشل المتكرّر في كل مناحي الإصلاح والتطوير، ولماذا المحاصصة في المناصب، وتعرّض موارد الدولة للنهب المستمر، ولماذا لا تزال هذه الحفنة المنتفعة في السياسة والاقتصاد، وإلى جانبها طفيليات كثيرة، تزداد تصميماً على إغراق البلد وإدخاله في دوّامة الدولة الفاشلة، والدفع في اتجاه بيع أصول الدولة، للاستيلاء عليها بثمن بخس مع شركائهم في المصارف ومتفرّعاتها، على أن يكون المقابل السياسي المطلوب، هو العمل على تغيير موقع لبنان السياسي والالتحاق الكامل بالتطبيع بحجة التكامل مع السياسات العربية. وهذا ما يطمح إليه هؤلاء طالما أنهم باقون وكلاء وأصحاب نفوذ وثروات، وهذا ما امتهنوه، وإن اختلفت الأسماء والوجوه والمواقع طبقاً لطبيعة الحقبات المختلفة.
خلاصة القول أنّ المقاومة في فعلها الدفاعي عن الحدود البحرية، لا تحفظ ثروات لبنان لأجياله الحالية والمستقبلية فقط، وإنما تُحبِط أي إمكانية لأخذ لبنان إلى مرحلة السقوط النهائي كبلد مستقل. وهنا بيت القصيد. فهؤلاء متضرّرون، بشدّة وبشكل مباشر، بفعل ما تراكمه المقاومة وتسعى إلى بنائه من قوة للبنان، وتثبيت للحقوق، وتصليب عود السيادة الحقيقية وانتزاعها من الحالة الفولكلورية. فكلما سعيت إلى بناء دولة حقيقية، ضربت وجودهم في الصميم، لأن انتعاشهم يقوم على إبقاء الوطن ممزّقاً ضعيفاً والدولة أشلاء طائفية مستباحة.
أمام هذا الأمر، من الطبيعي والمنطقي أن تسمع هذا السيل من المواقف والتصريحات و الارتجاف السياسي والتبرّؤ والنأي بالنفس عن فعل المقاومة الوطني وحقّ لبنان الشرعي باستعمال المُسَيَّرات، والمسارعة إلى الاعتراض عليها تلبية لمطالب الإدارة الأميركية، والتي هي في جوهرها إذعان واستعداد للتفريط بالثروات من أجل نيل الرضى الغربي.
إلا أن العلامة الفارقة اليوم أن المقاومة، في مواجهة هؤلاء ومن يقودهم، ستأخذنا إلى فضاء سيادي بحري لم يألفوه في معادلة البحر سابقاً، لكنّ عليهم الاعتياد عليه والتعايش معه، فلا إمكانية للعودة إلى الوراء. وكما تمرّنوا جيداً لاستيعاب القبول بالندّية مع العدو على توازن الردع الفعّال (على إجر ونص)، عليهم أن ينظروا جيداً من حولهم، وأن يدركوا أن المسار البحري واضح وجليّ، وأن كل ما قاله قائد المقاومة سماحة السيد الأمين العام سيعمل به حرفياً...
لذا، على الداخل قبل الخارج أن يدرك جيداً، ومن دون أوهام، أن الموضوع يتجاوز إطلاق مسيّرة أو أكثر، لمرة أو أكثر. بل هو في الواقع خط مفتوح متكرر يُستعمل كلما دعت الحاجة، بالشكل المناسب وبكل الأدوات المتاحة (وهي بالمناسبة كثيرة)، من أجل الحفاظ على الحقوق الوطنية.
إننا أمام ولادة جديدة لمعادلة تجعل من وطننا أكثر قوة وأكثر أمناً وأكثر نضجاً، مع مئويته الأولى وأربعينية مقاومته البطلة.... وطن يستحق أن تُبذل من أجله كل الجهود والتضحيات ليكون، فعلياً ونهائياً ومن دون زيف، حراً سيداً مستقلاً. وللحديث تتمّة بحرية تكمل حياكتها سواعد المجاهدين، من «ساعر» إلى...

* قياديّ في حزب الله