منذ ولادة السينما إلى يومنا هذا، لا تزال عقوبة الإعدام واحدة من أهم المواضيع وأكثرها تكرراً، بسبب قوتها الدرامية وقدرتها على إظهار الجانب الأكثر قساوة من البشر. واللافت أن الأفلام التي تتعامل مع هذه العقوبة عادة ما تكون مؤيدة لإلغائها أو، على الأقل، تشير إلى الحجج القانونية والإنسانية لإلغائها. لكن، في بعض الأوقات، فإن الأفلام الروائية عن عقوبة الإعدام تغش عندما تحجب الأسئلة الأخلاقية الأساسية التي تنطوي عليها هذه العقوبة. وفيما قد نتوقع أن تكون الأفلام الوثائقية أكثر واقعية، إلا أن هذه أيضاً تغش عبر التركيز بشكل حصري على قضية البراءة، ما يساهم في زيادة انتشار الرأي القائل بأنه لا ضرر كبير في عقوبة الإعدام طالما أننا على يقين من أن الشخص مذنب.تستند معالجة عقوبة الإعدام في السينما إلى معايير عدة: براءة المتهم أو إدانته، حكم الإعدام كقضية إنسانية، أسباب قانونية ضد عقوبة الإعدام وما إلى ذلك. كما أن السينما أظهرت أساليب مختلفة لتنفيذ العقوبة تغيرت بمرور الوقت: في العصر الحجري كان الرجم بالحجارة والرمي من مكان مرتفع. لاحقاً، ظهرت الصلبان وحبل المشنقة والعصي. واستخدمت الكنيسة النار ضد المهرطقين. مع تقدم التكنولوجيا أتت المقصلة، ومع اكتشاف الكهرباء ظهر الكرسي الكهربائي ثم الغاز والأدوية الكيماوية. لم تخف السينما ابداً من التعبير عن بعض أكثر قضايا المجتمع حساسية والتي أدت وتؤدي إلى صراعات أخلاقية.
هناك أربعة اشكال رئيسية ميزت الأفلام التي تناولت عقوبة الإعدام:
1-غالباً ما يتم وضع المشاهدين كجمهور ويتم تقديم العديد من مشاهد تنفيذ الإعدام بطريقة مسرحية. نتيجة لذلك، يكون الخط الفاصل بين المشاهدة أو التفكير في الموت كعقوبة غير واضح، لأن كل شيء يجري امامنا من دون أن يكون للفيلم أو لنا أي رأي في العملية التي تتحوّل ميكانيكية حتى في عقولنا.
2-في العديد من الأفلام يتم اخذنا كمشاهدين «وراء الكواليس» وتُقدّم إلينا وجهة نظر الجلادين، أو رأي المخرج نفسه في عقوبة الإعدام نظر وحججه ضد الغائها. وهنا نغوص كمشاهدين ويثار وعينا وافكارنا، وتحدد مسؤولياتنا السياسية والإنسانية والقانونية المتأصلة في هوياتنا كمواطنين في دول تقتل شعوبها، وكيف؟ ولماذا؟ وهنا يظهر السؤال الجدلي والاشكالي: هل عقوبة الإعدام هي الحل؟
3-في بعض الأوقات يتغير موضعنا كمشاهدين بحيث نقف في مكان أولئك الذين سيتم اعدامهم، نتعاطف معهم، نغوص في أفكارهم ونرى مواقفهم عن الحياة والموت.
تجرأت أفلام لا تحصى من الأفلام على التفكير في هذه النقاشات الإنسانية والركائز الثلاث، وسردت قصصاً خيالية وحقيقية تستحق عرضها على شاشة كبيرة، في ما يأتي بعض منها.

«أعز الجلادين»
Dearest Executioners» (1977)»



قبل خمسة وأربعين عاماً، أعاد باسيلو مارتين باتينو في فيلمه الوثائقي «أعز الجلادين»، تاريخ إسبانيا المظلم وحقبة فرانكو من خلال قصة ثلاثة أصدقاء أعزاء: أنطونيو وڤيسينتي وبرناردو. ثلاثة جلادين أعدموا كثيراً من الأشخاص بحكم القانون. يستكشف الفيلم القصص الشخصية للرجال الثلاثة وطريقتهم في فهم «مهنتهم» التي لم تسبب لهم معضلة أخلاقية كبيرة. نراهم يتحدثون براحة وطبيعية، مما يجعلنا نشعر بالرهبة والخوف. «لا أستطيع التمييز بين شخص وآخر. إنهم محكومون ومن واجبي تنفيذ الإعدام»، يقول أنطونيو الذي أعدم ابن عم زوجته. أما بالنسبة لڤيسينتي فكان الأمر «مثل ذبح الخراف».
«أعز الجلادين»، شريط إنساني ضد الإعدام لا يحتقر الجلادين ولا يستخدمهم اخلاقياً، بل يروي قصة مجرمين وجلاديهم. انعكاس عنيد للسلطة وصورة فظيعة للمجتمع الذي يعمل فيه هؤلاء.

فيلم قصير عن القتل
«A Short Movie About Killing»

كشيشتوف كيشلوڤسكي، واحد من أهم السينمائيين الذين يتقنون «فن» التحكم بمشاعر المشاهد. يجعلنا نشعر بما يريد، ويمتلك القدرة على تحقيق ذلك بسهولة. في «قصائده»، المصورة «يلخبط» المشاعر كيفما يريد، بحيث نتعاطف مع احدى الشخصيات في أفلامه، وسرعان ما تتبدل مواقفنا ونبدأ برفضها، ثم بعد لحظات نؤيدها مرة جديدة. في افلامه تحيز إلى الفلسفة الإنسانية ودراسة حالة الإنسان. في «فيلم قصير عن القتل» يواجهنا كيشلوڤسكي بالموت ويظهره من خلال القتل التعسفي او الموت كعقوبة الاعدام التي يقرّها القانون.


جاسيك يجوب شوارع وارسو، يقرر أن يستقل سيارة اجرة ويقتل سائقها. يتم إلقاء القبض عليه، ويحكم بالإعدام شنقًا. ما من دافع لارتكاب الجريمة، ولا أي تفسير نفسي او اجتماعي واضح. قد يكون الاحباط النفسي لدى جاسيك دفعه لارتكاب الجريمة، أو أنها محاولة يائسة لتدمير الذات. السبب غير واضح كليا. لا هدف معروفاً وراء عملية القتل، وهذا ما يجعل الفيلم مخيفا جدا، بالإضافة الى غياب أي تفكير منطقي للعنف، وخاصة عندما نرى جاسيك يعاقب بالموت. ينجح المخرج البولندي في معالجة صارخة ضد القتل بشكل عام وعقوبة الاعدام بشكل خاص، وأيضا قدرة البشر على تطبيق «الموت»، ويرى أن كل عمليات القتل سيئة. لا يهم لماذا يقتل المرء، ومن يقتل أو من يُقتل. الفيلم صرخة ضد عقوبة الإعدام يُظهر فيها العلاقة بين الانسان والجماعة. نعلم جميعاً الأسباب التي تجعل المجتمع يقتل المجرم لكننا لن نعرف لماذا يقتل المجرم ولا نعرف أسبابه الإنسانية الحقيقية، لذلك لن نستطيع أن نحل المشكلة من جذورها. هنا ننتهي مع ما ورد في المشهد الأخير: هل عقوبة الاعدام هي الحل؟
التركيز حصرياً على البراءة يساهم في زيادة انتشار الرأي القائل بأنه لا ضرر كبير في الإعدام طالما أن الشخص مذنب



ليس هناك شرّ «The Is No Evil»


صف من الأرجل التي تهتز وترتعش في الفراغ، بسبب تشنجات جسدية عنيفة، ثم فجأة تتوقف عن الحركة، ويتحرر البول. مشهد وضع بين الفصلين الأول والثاني من فيلم «ليس هناك شرّ» للمخرج الإيراني محمد رسولوف. المشهد يصور إعدام مجموعة من السجناء في إيران، ويتناول عقوبة الإعدام في إيران حيث يُرسل نحو مئة شخص إلى المشنقة كل عام. لكنه يركز بشكل أساسي على مصير المنفّذين المباشرين، على الموظفين القدماء والمجندين الشباب الذين يضغطون الزر أو يسحبون السطل بعيداً عن المدانين. «ليس هناك شرّ» فيلم يكشف معضلات أخلاقية عدة، ويدرس عقوبة الإعدام وآثارها المباشرة وغير المباشرة.
* متوافر على نتفلكس

إلى الهاوية «Into The Abyss»
والمحكوم عليهم بالإعدام «Death Row»

منذ إن ولد ڤيرنر هيرتزوغ وهو يبحث عن القصص. هو اسطورة حية، يرسم اقصى الحدود البشرية في أفلامه. أبطاله طموحون، مجالاتهم غامضة ودائماً على صراع مع الطبيعة والبشر والمجتمع ومع أنفسهم. فيلمه الوثائقي «إلى الهاوية» قاده إلى النظر في أحلك فجوة في النفس والسلوك البشري. يظهر الوثائقي مشاهد للشرطة تتعلق بجريمة قتل ارتكبها جيسون بوركيت ومايكل بيري عام 2001، في كونروي، وهي بلدة في ولاية تكساس، الولاية التي تشهد أكبر عدد من الاعدامات سنوياً. يتحدث هيرتزوغ مع الشرطة، وعائلات الضحايا، وعلماء نفس وانثروبولوجيين ومع من ارتكبوا الجريمة، وبينهم مايكل بيري، قبل ثمانية أيام فقط من إعدامه.


بصوته المميز يطرح هيرتزوغ الأسئلة، ولا يتردد في استجواب الجميع. وحالما نشعر أنه يزعج «ضحاياه» وأنهم سيتوقفون عن الكلام، نرى انفتاحاً أكثر للقلوب والمشاعر والروح. إن كان هناك مقر رئيسي أو عاصمة للشر، فستكون هذا النظام البيروقراطي البارد لعقوبة الإعدام. يظهر المخرج الألماني عبثية الموت والقتل. يحاور هيرتزوغ جلاداً، ويسأل كيف يمكن للأشخاص المنخرطين في عمليات الإعدام العيش من يوم لآخر من دون التفكير في عقوبة الإعدام؟ فريد ألين، الرئيس السابق لوحدة الإعدام في ولاية تكساس والذي شهد أكثر من 120 عملية إعدام، إلى أن أصيب بصدمة جعلته يتوقف عن العمل، يقول: «لا يحق لأحد أن يأخذ حياة أي شيء، ولا يهم إذا كان هذا ما ينص عليه القانون». ينتهي الوثائقي بكلمات هيرتزوغ لبيري الذي سيعدم بعد أيام: «إن التحدث إليك لا يعني بالضرورة أنني معجب بك، لكني احترمك، فأنت إنسان واعتقد أن البشر لا يجب أن يُعدموا».
هذا الوثائقي دفع هيتزوغ إلى التعمق أكثر في هذا الموضوع، فأنتج سلسلة وثائقية على موسمين وثماني حلقات بعنوان «المحكوم عليهم بالإعدام». منذ عرض الوثائقي عام 2012، تغيرت الأوضاع كثيراً. اعتباراً من عام 2017 أصبحت عقوبة الإعدام قانونية في 31 ولاية. الموت بالحقن هي الطريقة الأساسية للإعدام، ولكن في بعض الولايات يُسمح بطرق أخرى، حتى أن بعض الولايات تسمح للمحكوم عليهم باختيار طريقة اعدامهم من قائمة الأساليب المعتمدة. كشف هيتزوغ كيف أن الناس والدولة يقتلون بعضهم بعضاً، ورغم رفضه الواضح لعقوبة الإعدام، إلا أن هذه السلسلة تتجاوز هذا الاعتراض إلى محاولة وصف وجود الشر في البشر إن كانوا مجرمين أو من الشرطة أو قضاة. وأكثر ما يدمر في هذا الوثائقي هو أنه يوثق كيف يتم إخبار المحكومين بموعد موتهم باليوم والساعة والدقيقة.
في «فيلم قصير عن القتل» يواجهنا كيشلوڤسكي بالموت ويظهره من خلال القتل التعسفي او الموت كعقوبة الاعدام التي يقرّها القانون



السيد موت
«Mr. Death»

يبدأ فيلم «السيد موت» بكلمات فريد أرثر لوتشر: «لقد أصبحت منخرطاً في تصنيع مكنات الإعدام لأنني كنت مهتماً بالحالة المؤسفة للأجهزة الموجودة في معظم سجون الولايات المتحدة والتي تؤدي عموماً للتعذيب قبل الموت». لوتشر هو نفسه من دعاة عقوبة الإعدام. فهل من الغريب أن يقوم مؤيد لعقوبة الإعدام بتصميم معدات الإعدام من منطلق التعاطف مع الشخص الذي يتم إعدامه؟


هذا ممكن بسبب شخصية لوتشر الغريبة. فقد عمل على مختلف معدات الإعدام: الكرسي الكهربائي، المشنقة، غرفة الغاز، آلات الحقن المميتة. بأسلوب البائع يقودنا لوتشر عبر غرفة الموت، موضحاً كيفية استخدام الكرسي الكهربائي الذي اخترعه، ويصف من دون عاطفة كيف تقتل الكهرباء الانسان، وما الذي يمكن أن يحدث في حال وقوع أي خطأ. هو فخور بإنجازه، ويتباهى بأن سعر الكرسي الجديد معقول جداً. بسبب أفكاره وإثباته أن الهولوكوست لم تحدث ابداً، وأن ليس هناك إثبات علمي لغرف الغاز، فقد لوتشر كل شيء، حتى زوجته. المخرج أيرول موريس ينقل لنا حياته، صعود وهبوط رجل حزين لديه بعض الأفكار الغريبة حول أرواح المدانين الذين يسكنون الأجهزة الذي اخترعها، وصديق النازيين الجدد. لكنه لا يرى مفارقة في حقيقة انه يساعد في قتل الناس، رغم أنه يقول مراراً وتكراراً إن السجناء بشر يستحقون الكرامة والاحترام، وإنه مرتاح لفكرة «عمليات إعدام أكثر إنسانية وغير مؤلمة».