أكتوبر 2014، الخريف ليس هذا حاله مع رجال مثل الأب مارون عطاالله. الرجل الذي يمضي سنواته متنقّلاً بين المناطق والبلدان، يتصرف كأنه ابن الأرض حيث يقف وحيث يأكل وحيث ينام. تصاحبه البساطة التي أعطاها مكانة اليد العليا. هي علاجه لكل المشكلات الكبرى. ونظرته تقوم على مبدأ أن التواصل الإنساني علاج لكل الأمراض. والكلام، على كثرته، لا يُعفي النفس من التأمل والبحث في الأفضل. لكنه يُغني عن كل عنف يلجأ إليه الفاقدون للمنطق والصبر والمثابرة.في بلد مثل لبنان، نجحت فكرة الخوف من الآخر في إشعال حروب متنقّلة. ليست النار وسيلتها الوحيدة. بل الأصعب هو سلاح الانقطاع، حيث يسود وهم فقدان العناصر المشتركة مع الآخرين. لم يكن الأب الأنطوني يحتاج إلى شرح كبير يلجأ إليه منظّرون كبار في تعريف المشتركات الكبيرة جداً بين الناس. كان يمكنه الإشارة إلى تعب النفس من أمراض الشره والأنا وحب السيطرة، حتى يطلق العنان لمقاومة هي الأكثر نجاعة في مواجهة خطر الخوف. كان قادراً، ببساطة، أن يحمل نفسه ومن يستعدّ لمرافقته للسير بين المناطق والدول، مُرغِماً الآخرين على الإقرار بحقه في التواصل المباشر، وفي طرح الأسئلة حول المشتركات وحول الصعاب وحول آليات التفاعل التي تسمح بتخفيف الآلام.


في بلد، كلبنان، يمكن أن يتحول توافق المختلفين على رجل واحد إلى مشكلة. سريعاً سيُتهم الرجل بأنه متلوّن، وقادر على ملاعبة الآخرين حتى يحظى باحترامهم. وربما يذهب البعض إلى اتهامه بعدم مواجهة الحقائق والهروب من قول الموقف الحاسم، لأنه يسعى إلى الفوز بحب الجميع له. صحيح أن هذا هو حال بعض رجال السياسة والاقتصاد في بلادنا. لكن، في حالة الأب المثابر، لا يمكن أن تكون الصورة خلاف صورته الحقيقية. صورة الرجل الذي اقتنع، بفعل تجارب عقود طويلة من الزمن، بأن التواصل شرط إلزامي للبحث في كل خلاف. لم يكن الرجل محايداً كما يظن كثيرون. بل كان شديد الواقعية. يقرّ بأصله في هذه الأرض. وأصله، هنا، ليس مكاناً وُلد فيه، أو حليباً رضعه من أمّ، أو مدرسة تعلّم فيها النطق. الأرض، هنا، تعني لرجل مثله المكان الذي يتسع لكل هؤلاء الناس. المكان الذي يتعرّض فيه المرء لاختبارات يومية ليتعلم التمييز بين الخير والشر. ولغته المستخدمة لا تستند حكماً إلى ثقافة كهنوتية أصيلة في عقله وقلبه، بل إلى ما تعرّف عليه من ثقافات وأفكار، إضافة إلى الموروثات الشعبية والتقاليد والأصول وحتى طرق التعبير عنها.
لم يكن الرجل يستخدم سحراً لكسب حبّ الآخرين بعد احترامهم. بل كان ذكياً، بما فيه الكفاية، لإقناع أي «آخر» بأنه لا يخشاه، وأنه يقدم عليه من دون مهابة. هو مثل جيل من المؤمنين، ممن لديهم قناعة بأن الله نزع من قلوبهم مهابة الأشرار، فأقدموا مدركين، حتى إذا واجهوا الأخيار، صار بمقدورهم الحديث عن مشتركات تكفي لحياة طويلة يسودها الحب والهدوء.
في عقله، أنك إن كنت تخشى شخصاً - أو منطقة أو فريقاً أو فكرة - فهذا لا يعني أن عليك أن تكرهه وتخشى التواصل معه وتنغلق على نفسك. وقد أدرك، بعقل العالم، أن الكره ليس مثل الخوف. الكره سلوك إنساني يمكن تجاوزه. لكنّ علاجه السحري عند الأب مارون قائم على فكرة الاتصال بهذا الآخر. كان مُحِقّاً في أنه آمن بمبدأ «تعرّف... تحب». كانت قناعته قوية بأن التواصل الإنساني ممكن عبر العلاقات البسيطة. عبر الزيارات والتفقّد، وعبر الثقافة المشتركة بكل لغاتها، وعبر الموسيقى والفنون والتعلم. وكان قوياً في قدرته على جعل تواضعه عنصراً مركزياً في حياته. التواضع، هنا، يكون حيلة للاتصال بالآخر، لكنه في حياة الراحل، كان هدفاً يجاوز هدف إشاعة الحق في الاتصال والتفاعل والنقاش.
لم يكن الأب مارون قاسياً مع الحياة رغم كل قسوتها. في ذلك الخريف، جاءنا الأب مارون برفقة صحبه، الآتين من «آخر الدنيا»، على ما تقول أمهاتنا، مقتحماً بيوتنا كالفاتحين. سهرنا وتناقشنا في كل شيء. بات ليلته في منزلي برفقة الأب العصامي هاني طوق والنقيب ملحم خلف. تجوّل وأكل واختار فراشه كأنه يعرف كل شيء في المنزل. لم يكن يحتاج إلى أكثر من التمعّن في الوجوه ليُظهر احترامه لكل ما يخصّهم في حياتهم اليومية. عدا ذلك، لم يكن يجد قبالته أي مانع يلزمه الصمت أو المحاباة أو الاحتيال على الكلمات. وكان قوياً في قناعته بأن هذا التواصل، وإن في حده الأدنى، كفيل بزرع بذرة تدوم دوام الحياة... قال للأب هاني: هذا هو إبراهيم الأمين، أتجد فيه وفي أهله ما يمنع التواصل والتعرّف والحبّ؟
ليس من قبيل الصدفة أن يمضي رجل بضع ساعات في حياتك، ويبقى حاضراً بصورة دائمة. وهي حال الذين عاشوا معه الأيام والرحلات والأنشطة، ويحكون عنه بروحية الأبناء الذين يفقدون أباً ترك لهم إرثاً لا يقدر أحد على هدره.
تتذكّر كوزيت كرم يوم ترأَّس جنازة أمّها، ومخاطبته العائلة مواسياً: «صباح لم تَعُد هنا، نعم، لكن لا بدّ للمؤمن من أن يكون على يقين بأن صباح أصبحت في كل مكان. أودّعك بعباراتك هذه: فقد أصبحتَ - أنتَ - في كل مكان».
ويروي منير مهنا عن «الأب الذي انتصر على إشكالية العلاقة مع الآخرين، محوّلاً الندّية في العلاقة إلى معيّة وتشاركية، والاختلاف في أنماط العبادة إلى ائتلاف وتلاقٍ في تمجيد المعبود، فذابت بين يديه المسافات وتقاربت القلوب».
وتشرح كريستيان صليبا نظرته إلى التواصل وقناعته بأن «جسور البناء تمرّ بثقافة الكتاب وتاريخ الجماعات والشعوب والفنّ والشعر والمسرح... كلها تساعدنا للّقاء مع الآخر، الآخر الغنيّ باختلافه، الفخور بانتمائه وتاريخه، وهو الذي قاد مسيرة البناء المتواصل من العراق إلى سوريا إلى كردستان كما وفرنسا وبلجيكا وسويسرا وإيطاليا».

* نعت الرهبنة الأنطونية الأب مارون عطاالله الذي تُوفي صباح السبت. ويُنقل جثمانه الساعة العاشرة قبل ظهر اليوم إلى كنيسة مار الياس - أنطلياس، ويُحتفل بالصلاة لراحة نفسه عند الثالثة من بعد الظهر، ثم يُنقل الجثمان إلى دير مار روكز - الدكوانة حيث يُوارى الثرى. وتُقبل التعازي ابتداءً من العاشرة قبل ظهر اليوم في صالون كنيسة مار الياس - أنطلياس، وغداً 22 الحالي في دير مار روكز - الدكوانة من العاشرة قبل الظهر حتى السابعة مساءً.