عام 1957 كان لبنان يمر في أزمة قد تكون، إلى حد ما، مشابهة لأزمات اليوم. كان تأثير جمال عبد الناصر ينمو في العالم العربي وكانت الحرب الباردة وحلف بغداد والمنافسة بين المعسكرين السوفياتي والأميركي على أشدها. يروي ويلبر كرين إيفلاند في كتابه «حبال من رمال: فشل أميركا في الشرق الأوسط»، تفاصيل مثيرة، يعنينا منها موضوع الساعة: «الانتخابات النيابية».

كانت انتخابات 1957، بحسب إيفلاند، مهمة للأميركيين لأنهم يريدون إفشال معارضي {مبدأ أيزنهاور}، وإيصال المؤيدين لسياستهم الخارجية، رغم أن كميل شمعون أبدى تخوفه من إسقاط رموز مهمة في المعارضة. ولكن يقول إيفلاند إنهم (أي، الأميركيين) خصصوا مبلغاً كبيراً من المال لتحقيق غرضهم وعقدوا اجتماعاً للتداول قرروا فيه اختيار أسماء مرشحيهم إلى المجلس النيابي، ومنهم شارل مالك مرشحاً عن المقعد الأرثوذكسي (كانت الكورة ممثلة بمقعد واحد والآن أصبحت ثلاثة)، وتأمنت الأموال التي حققت فوز هؤلاء المرشحين. نجح شارل مالك في الكورة بهامش كبير. ويؤكد إيفلاند أنهم دفعوا مصاريفاً انتخابية لشارل مالك وصلت إلى 75،000 ليرة لبنانية وكذلك 75،000 ليرة للمرشح المنافس (فؤاد غصن) كي ينسحب، وفقاً لما ورد في الكتاب. «صرفنا 150،000 ليرة لبنانية لشراء المقعد الأرثوذكسي في الكورة»، يقول إيفلاند، وهذا المبلغ يساوي نحو 1.2 مليون دولار اليوم.
استناداً إلى الابحاث والدراسات والمراقبة التي أجرتها «الدولية للمعلومات» في الانتخابات النيابية في عدد من الدوائر التي شهدت منافسة حادة في انتخابات العام 2009 في دائرتي الكورة وزحلة تبين لنا التالي:

■ الكورة
- قُدرت ميزانية قوى الموالاة و14 آذار بين 12و15 مليون دولار أميركي.
- قُدرت ميزانية قوى المعارضة و8 آذار بنحو 1.7 مليون دولار.
■ زحلة
- قٌدرت ميزانية قوى الموالاة و14 آذار بنحو 40 إلى 50 مليون دولار أميركي.
- قُدرت ميزانية قوى المعارضة و8 آذار بنحو 10 إلى 15 مليون دولار أميركي.

انقر على الصورة لتكبيرها


انقر على الصورة لتكبيرها

وهكذا يتبين أنه في منطقتين ساخنتين خُصصت قرابة 65 إلى 80 مليون دولار، أو ما يساوي أكثر من 30% من السقف المحدد للمصاريف الانتخابية في كل لبنان. ولم نتمكن من تحديد المبالغ التي صرفت لشراء الأصوات فقط. ورغم ذلك لم يلحظ المراقبون الدوليون أو المحليون ذلك أو مدى تأثيره على العملية الانتخابية. الجدير بالذكر، أن المعارضة والموالاة والمراقبين المحليين والدوليين تقبلوا النتائج وأشادوا بـ «نزاهة الانتخابات».
وفي استطلاع لرأي الناخبين في انتخابات العام 2000 عبّر نحو 10% (وهي طبعاً أدنى من النسبة الواقعية) أن العامل الأهم للاقتراع هو المال والأمل بوظيفة أو مصلحة أو نكاية. وفي انتخابات العام 2005 أفاد 12% أن العامل الأهم الذي يدفعهم للاقتراع هي المصلحة المادية والوظيفة والنكاية.
2 مليار دولار حجم الإنفاق الانتخابي في الانتخابات النيابية عام 2009


تبقى الإشارة الأهم إلى حجم الإنفاق الانتخابي الأكبر في لبنان في تاريخ الانتخابات النيابية في العام 2009، إذ قدرت «الدولية للمعلومات» حجم الأموال التي حُوّلت إلى القوى السياسية، ولعلها لم تصرفها بالكامل، بنحو 2 مليار دولار وذلك بالاستناد إلى الارتفاع الكبير في ميزان المدفوعات مقارنة بالسنوات التي سبقت. قد يدّعي المراقبون الدوليون عدم وجود وثائق لديهم تبرهن على وجود هذه المخالفات والممارسات. ولكن ماذا عن الأموال التي دفعت من أموال الصناديق المختلفة مثل صندوق المهجرين ومجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة، قبل الانتخابات تحديداً؟
كلنا نتذكر صور ضحايا أو «شهداء» الحرب الأهلية المعلقة على الجدران، وكيف كانت الاحزاب والميليشيات تتقاضى الأموال من ليبيا والعراق لاستمرار لهيب الحرب. فالمال هو الطاقة المدمرة في الانتخابات وفي الحروب، وهو العصب القاتل.
لا نعرف حتى الآن من سيمول، وكيف ستوزع الأموال في انتخابات 2022، وهل ستتوفر من الداخل أو من الخارج أو من الاثنين معاً؟
يبقى الاستنتاج الأساسي أن الانتخابات النيابية في لبنان ومنذ العام 1943 وحتى يومنا هذا، كناية عن رهائن تنتخب رهائن. رهائن المال والمصلحة والخوف والسلطة والخارج.

* الشريك التنفيذي في الدولية للمعلومات



سقف الإنفاق الانتخابي الكبير يشجّع على الرشوة وشراء الأصوات


شراء الأصوات في الانتخابات النيابية اللبنانية عادة قديمة يمنعها القانون اللبناني ويجرم الإقدام عليها. وفي سبيل الحد من الرشوة الانتخابية نصت قوانين الانتخابات النيابية في الأعوام 2009 و2018، والآن في 2022 على إنشاء هيئة للإشراف على الانتخابات النيابية، ولاسيما الرقابة على الإنفاق المالي. إذ فرضت فتح حساب مصرفي للحملة الانتخابية يتم إيداع الأموال والإنفاق من خلاله. لكن الكل يعرف أن الرقابة على هذا الإنفاق صعبة أو مستحيلة في لبنان نظراً لحركة السيولة النقدية الكبيرة، كما أن القانون بحد ذاته رفع سقف الإنفاق الانتخابي ما يشجع على شراء الأصوات. إذ كان السقف محدداً في قانون انتخابات العام 2009 الرقم 25/2008 بـ «قسم ثابت قدره 150 مليون ليرة للمرشح وقسم محرك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية محدد بـ 4 آلاف ليرة عن كل ناخب» (كان عدد الدوائر 26 دائرة وعدد الناخبين قليلاً). وفي قانون انتخاب العام 2018 الرقم 44/ 2017، حُدّد السقف بـ 150 مليوناً لكل مرشح و150 مليون ليرة لكل مرشح في لائحة، و5 آلاف ليرة عن كل ناخب مسجل في الدائرة الانتخابية الكبرى. (وقد ارتفع سقف الإنفاق لأن عدد الناخبين في كل دائرة في الدوائر الـ 15 أصبح كبيراً). وصل إجمالي الإنفاق المتاح في الدوائر الانتخابية قياساً إلى عدد المرشحين والناخبين إلى نحو 879 مليون دولار وفقاً لما هو مبين في الجدول رقم 1. وفي انتخابات العام 2022، عُدِّل القانون السابق بموجب القانون النافذ حكماً الرقم 8 تاريخ 3-11-2021، وارتفع سقف الإنفاق إلى 750 مليون ليرة لكل مرشح و750 مليون ليرة لكل مرشح في لائحة و50 ألف ليرة عن كل ناخب مسجل في الدائرة الانتخابية الكبرى. يشجّع الإنفاق الانتخابي الكبير «المقونن» على شراء الأصوات، ويبين الجدول التالي سقف الإنفاق المتاح لكل مرشح في الدوائر الانتخابية الـ 15. ارتفع سقف الإنفاق الثابت بنسبة 400 %، وارتفع سقف الإنفاق المتحرك بنسبة 900%.
(الدولية للمعلومات)