مضى نحو شهر على مجزرة التليل في عكار، ولا تزال الدولة اللبنانية ومؤسساتها عاجزة عن تحقيق أي إنجاز في هذا الملف، إن لجهة الكشف عن المتورطين والمقصّرين في الحادثة ومعاقبتهم، أو لجهة تقديم أي دعم لعائلات الضحايا ومنهم من يعاني أوضاعاً صعبة للغاية تحول حتى دون تمكّنهم من تفقد أبنائهم الجرحى في المستشفيات.في 15 آب، فجر عكار الدامي الذي شهد على تفحّم عشرات الضحايا نتيجة انفجار خزانات للوقود، وفي وقت كان فيه البحث جارياً عن أشلاء ضحايا المجزرة، ومن دون وجل، عمد تيار المستقبل إلى استثمار الانفجار، سياسياً وانتخابياً وطائفياً، ولم يتوانَ التيار الأزرق، على رأسه سعد الحريري، عن استغلال دماء الضحايا. فكان له موقف واحد عبارة عن تغريدة على حسابه على «تويتر»، ذيّلها بوسم «عهد جهنّم»، مصوباً على رئيس الجمهورية ميشال عون. تغريدة الحريري أذكت أجواء التوتر الطائفية في عكار، وبدل الوقوف الى جانب المحافظة المنكوبة، حاول توجيه أصابع الاتهام وحرف مسار الجريمة. قبل أن تنجلي الصورة، ويتّضح الانتماء السياسي لغالبية المرتبطين بالقضية، لتبدأ بعدها رحلة التعتيم الإعلامي.
سبق لعكار أن أعطت للحريري تفويضاً بأصواتها، بلا منازع، حتى عام 2018، لكن «السما الزرقا»، طوال ثلاثة عشر عاماً، لم تكن كفيلة بتحقيق الإنماء ولم تهطل منها سوى وعود ترجمت مزيداً من الفقر والحرمان والتسيّب الأمني، وصولاً الى كارثة التليل.
كلام الحريري، وبيانات المستقبل التي تمحورت حول الشتائم والاتهامات والسباب والتوظيف السياسي الذي لم يُبقِ «سِتر مغطى»، قابله كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في إحياء الليلة السابعة من عاشوراء، معزياً الأهالي، وواضعاً إمكانات الحزب «في خدمة أهلنا في عكار، لأن هذه الآلام هي آلامنا وأحزاننا». وبعد أيام، أطلّ ليسأل عن مسار التحقيق، وعن سبب طمس موضوع الحادثة على بُعد أيام، وعن دور الدولة اللبنانية التي لم تسأل عن مواطنيها، وليؤكد «أننا نسعى إلى التواصل مع الأهالي، ولكن لا نريد المزايدة على أحد أو الاستثمار السياسي والتوظيف بالدم، نحن مشاعرنا إنسانية تجاه العائلات المنكوبة، وسنقدم لهم المساعدة المطلوبة». عدد من أهالي الضحايا عبّروا حينذاك عن امتنانهم لمبادرة نصر الله الذي أرسل وفداً لتقديم العزاء باسمه، مؤكدين أنه الوحيد الذي واساهم وخصّص حيزاً من مجالس عاشوراء للحديث عن مأساتهم.
لم تلتفت الفاعليات السياسية، وتحديداً تيار المستقبل، لكلام نصر الله، ظنّاً منهم أنّه لا يتعدى كونه محاولة لاستعطاف العائلات المفجوعة. ولم يقرأ مسؤولو التيار الأزرق الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي أرسلتها بعض العائلات عبر رفضهم المتكرر استقبال أي سياسي لتقديم العزاء، رغم محاولة أحد النواب الحثيثة تغيير رأيهم، مؤكدين أن دماء أبنائهم ليست للاستثمار. وهم عبّروا عن امتعاضهم من البيانات «المستقبلية» التي خرجت منذ لحطة وقوع الفاجعة والتي راحت تكيل الاتهامات يميناً ويساراً لتظهر لاحقاً الحقيقة كاملة وهي مغايرة تماماً لما حاول تيار المستقبل إشاعته من أجواء كادت أن تودي بعكار الى الفتنة.
أبدت قيادة الحزب استعدادها للمساعدة في تأمين محروقات لبلديّات عكّار عبر الهرمل


فتح نصر الله بكلامه باباً للتواصل مع عوائل الشهداء والجرحى، ليستكمل بعدها عدد من رؤساء البلديات والمخاتير وفاعليات منطقة الدريب (الأوسط، والغربي، والشمالي)، يتقدمهم رئيس رابطة العائلات الاجتماعية رئيس بلدية البيرة محمد وهبي، ورئيس حركة الإصلاح والوحدة الشيخ ماهر عبد الرزاق، وبمشاركة من رئيس رابطة المخاتير، عقد اللقاءات والتنسيق مع قيادة منطقة جبل لبنان والشمال في حزب الله.
وعلمت «الأخبار» من الفاعليات التي شاركت في الاجتماع أن اللقاءات تناولت أوضاع محافظة عكار، والبحث في كيفية مساعدة البلدات والقرى وعوائل الشهداء والجرحى عبر تقديم المساعدات الدورية والمنح التعليمية. كما جرى التطرق إلى أزمة المحروقات التي تعانيها المحافظة والتي كان بنتيجتها مصادرة الصهريج المحمّل بالمحروقات لمنطقة الدريب الأوسط السبت الفائت أمام أعين القوة الضاربة. وهنا أبدت قيادة الحزب استعدادها للمساعدة في المرحلة المقبلة عبر تأمين المحروقات لبلديات عكار عبر منطقة الهرمل.
وجرى التطرق الى الإهمال الرسمي الواضح وغياب الدولة ومؤسساتها عن متابعة قضية الانفجار ولملمة جراح الأهالي، فعمدت الفاعليات العكارية، بناءً على طلب الحزب، إلى إعداد قائمة بأسماء الشهداء والجرحى وعائلاتهم. وتوّجت الاجتماعات السبت الفائت بلقاء في مدينة جبيل، سلّم الحزب خلاله فاعليات عكار مبلغ مليار و275 مليون ليرة، كمساعدة لعائلات الشهداء والجرحى.
وبالفعل، نظّم وفد الدريب يوم أمس جولة على عائلات الشهداء والجرحى، وتم تقديم مبلغ 30 مليون ليرة لكل عائلة شهيد لبناني من شهداء المجزرة (22 شهيداً)، من بينهم (14 شهيداً من أبناء المؤسسة العسكرية) و15 مليون ليرة لكل جريح (51 جريحاً). وطلب الحزب الحصول على قائمة بأسماء الجرحى والشهداء السوريين، لتكون لهم تعويضات مماثلة.
أحد فاعليات الدريب الأوسط، أكد «أن التواصل مع قيادة حزب الله كان بمبادرة من قبلنا وبالتنسيق مع الحزب لأن الناس تعبت، وجاعت، والدولة غائبة عن السمع»، مؤكداً «أن هدف الحزب التخفيف من معاناة العائلات ولا يرغب على الإطلاق في عرض الموضوع على وسائل الإعلام، كما رفضوا إرسال ممثل عن الحزب للإشراف على تسليم الأموال احتراماً لمشاعر العائلات المفجوعة».
«لم نكن نتوقع هذه الحفاوة في الاستقبال»، يقول عضو الوفد يوسف وهبي، مؤكداً «أن ما شاهدناه اليوم يعكس مدى حزن الأهالي ووجعهم لخسارة أبنائهم، وطبيعة أبناء عكار الذين يحفظون الودّ والمعروف وهم توجّهوا بالشكر الى الأمين العام لحزب الله الذي وقف الى جانبهم في اليوم نفسه، مخصصاً لهم حيزاً من كلامه خلال إحياء ليالي عاشوراء، وهم رحّبوا بالوفد وطلبوا نقل تحياتهم، وهذا الأمر لا صلة له بالمساعدة المالية، فهم عندما طلبوا نقل تحياتهم إلى السيد نصر الله، لم يكونوا يعلمون بوجود مساعدة مادية ستُقدّم لهم».