انطلق الحراك في لبنان على خلفية أزمات معيشية بالدرجة الاولى، بغضّ النظر عن مسار هذا الحراك وتدخّل الغرف السوداء التي تسعى الى حرفه عن أهدافه الاساسية باتجاهات مختلفة ترتبط بتصفية حسابات سياسية مع العهد وحلفائه. ومع التأكيد على أحقّية الحراك المطلبي الوطني الذي يقّوم اعوجاج دولة ما برحت السلطة فيها تُمعن فساداً حتى أصبحنا إحدى الدول المهزلة على هذا الصعيد، إلا أننا في هذه العجالة نناقش ظاهرة قطع الطرقات التي عانى منها اللبنانيون سابقاً مع كل فورة احتجاجية، وتظهر المشكلة اليوم بحجم أكبر مع تقطيع أوصال البلد عبر قطع الشرايين الاساسية له. ولذلك، نلفن الى الآتي:
1 - إن بناء دولة قانون عادلة ومستقلة لا بد أن يتخذ المسارات القانونية الوطنية ليزرع في نفوس المواطنين الافكار والسلوكيات السوية لبناء الدولة، وهذا يتعارض مع فكرة قطع الطرقات بالقوة على الناس، علماً أن القانون يُعلن صراحة في المادة 37 (قانون 67 تنظيم السير) الفقرة أ بأنه: «يُحظر ايقاف أو ترك مركبة أو حيوان على الطريق العام إذا كان ذلك يُشكل اساءة استعمال الطريق»، وفي المادة 50 من القانون نفسه: «يُحظر على أي كان أن يرمي أو يترك على الطريق العام ما من شأنه أن يُعيق حركة السير أو يُسبب أخطاراً كالنفايات والتراب والحجارة ومواد البناء وغيرها». ولم يعطِ القانون اي استثناء لقطع الطرقات اثناء الاحتجاجات بالشكل الذي نعيشه اليوم.
2 - إذا قيل ان الشعب هو من يقطع الطريق ليُعبّر عن سخطه وتمرده على السلطة، فإن السؤال هو: ما هو المعيار المتخذ لقياس رأي الشعب، قي وقت نرى أن الاعداد التي تقطع الطريق لا تؤهلها ديمقراطياً للتعبير عن رأي الاكثرية، لأن ذلك مرتبط بالقيام باستفتاء حول رأي الشرائح الاجتماعية في قطع الطرقات. وفي حال استحصلنا على نتيجة مرضية فليكن.
3 - إن التأثيرات السلبية لقطع الطرقات تستهدف الناس مباشرةً، وبالاخص الفقراء منهم، الذين يجوبون الطرقات طلباً للرزق، كالموظفين والسائقين والبائعين المتجولين... اضافة الى انقطاع المواد الاساسية التموينية التي يعيش عليها الناس، ولا يستطيع الفقراء تموينها بعكس الاغنياء.
وهنا نأتي الى الرد على جواب السؤال المطروح في العنوان: هل قطع الطرقات تعبير عنفي أو لا عنفي؟
إن احتجاز حرية الناس في مناطق أشبه بالمعتقلات هو تعبير عنفي بكل ما للكلمة من معنى، واسترداد حرية الشعب لا تسترد بالاستعباد. وفي خضم هذه المعمعة، وحق الشعب في تحصيل المطالب، للشعب الحق في استخدام الوسائل المشروعة والمؤثرة بشكل مباشر على السلطة، وفق منهج تصاعدي مدروس. والمطلوب أن تتبلور في هذا الحراك قيادة يتم اختيارها وفق معايير اخلاقية ووطنية من ذوي الخبرات والكفاءات، تكون متيقظة الى عدم استخدام قطع الطرقات في لعبة التصفيات والنزاعات السياسية، وتعمل على وضع برنامج اصلاحي واضح وواقعي تضغط التحركات الشعبية لتنفيذه، واستخدام الوسائل المشروعة والضاغطة من قبيل التجمع امام بيوت المسؤولين المتهمين بالفساد، وقطع الطريق عليهم لمنعهم من الإمعان في الفساد ومحاكمتهم، وجعلهم يرضخون لصرخة الشعب، وتلقف المبادرات الاصلاحية والتجاوب معها، واختيار لجنة من المتخصصين في الشؤون القانونية والاقتصادية والاجتماعية تمثل الحراك، وتعمل على مراقبة تنفيذ الحكومة لوعودها وللمقررات... اضافة الى أفكار كثيرة يمكن استخدامها على قاعدة المشروعية والواقعية، وموازنة هذه التحركات بحيث تضغط على السلطة من جهة وأن تُراعى مصالح الشعب فيها، تحديداً الفقراء منهم، فليس من المعقول أن نطالب باستنقاذ أهلنا من الجوع والفقر من جهة، ومن جهةٍ أخرى نضعهم في خيارات صعبة أقلها كفرهم بالحراك، لأن قدرة الناس على التحمل ليست كبيرة، كما قدرة البلد على التحمل في هذه الظروف لا تُبشر بالخير، فنحن في هذه الفترة كباصٍ ينزل مسرعاً الى الهاوية، والمطلوب أن يُبادر ذوو الكفاءة والخبرة الى مساعدة السائق ليُحسن استخدام الفرامل، فالمجال لا يتسع لتغيير هذا السائق، وعندما يتوقف الباص أو تتراجع سرعة انحداره، نبادر حينها الى تغيير السائق ووجهة الباص.
* باحث سياسي وفي الادارة العامة.