تتشابك لحظات حياتها على نحو غرائبي... كمقطوعة موسيقية، يصعد لحنها ويهبط، تروي ليندا مطر ذكرياتها. 86 عاماً مرّت بلمح البصر بالنسبة إلى مناضلة لم تتعب من الدفاع عن حقوق المرأة اللبنانية والعربية. بمعزل عن معيار المناصب، تقيس مطر مسيرتها نسبةً إلى أهمية النتائج التي حققتها، وفاعليتها في الميدان الحقوقي والمطلبي. في عام 1925، ولدت ليندا مطر في حي الخندق الغميق الشعبي في بيروت. أهمّ ما في طفولتها أنّها كانت «أوريجينال»، كما تقول. كانت آخر العنقود، وكانت والدتها تبلغ خمسين عاماً حين أنجبتها. لكنّ ذلك لم يحجب عنها الرعاية. كان يكفيها الشعور بأنّها محبوبة. دخلت المدرسة باكراً. فما أن بلغت الثالثة، حتى بدأت أمّها توصلها يومياً إلى «مدرسة راهبات المحبة ــــ اللعازرية»، تتركها، وتذهب لتصلّي في الكنيسة المقابلة. في طفولتها، وخلال شبابها الأول، لم تكن ليندا مطر معنيّة بالسياسة والسياسيين...

كل ما كان يشغلها تفاصيل بريئة وجميلة: صلاة، وكنيسة، وقصص لا تزال ماثلة أمامها، تروي تفاصيلها كأنّها حدثت قبل دقائق: كيف تاهت عن أمّها مرة، كيف بدأت العمل في معمل الجوارب، ثمّ في مصنع الحرير، ثمّ التدريس عند الراهبات، والزواج، فالانتقال إلى «لجنة حقوق المرأة اللبنانية» وبعدها إلى «الحزب الشيوعي». كلّ هذه محطات من حياة كرّست مجملها للنضال من أجل المرأة.
انتقلت لاحقاً إلى «مدرسة الناصرة» (الأشرفية). الطريق إليها كان صعباً وشاقاً، كانت تقطعه ابنة الأعوام السبعة مع رفيقتها يومياً، حتى وصلت إلى نهاية المرحلة المتوسطة، وأجبرت على ترك المدرسة بسبب ضائقة مالية. هكذا، دخلت معترك العمل، وبدأت من معمل للجوارب. هناك، تفتّح وعيها على اضطهاد المجتمع للمرأة: عناء متواصل لـ11 ساعة يومياً، أجور زهيدة مقارنةً بأجور الرجل، ومنع النساء من التقدّم على مستوى التراتبية
الوظيفية...
كانت العاملة الصغيرة تكدح خلال النهار. أمّا في المساء، فكانت تذهب إلى المدرسة الثانوية حيث أكملت دراستها، وراحت تدرّس في الوقت عينه، ولمّا تبلغ السادسة عشرة.
تزوجت مبكّرة أيضاً من شاب أرمني، رغم أن والدها كان يردد على مسامعها دوماً: «لا تفكري في الزواج قبل أن تبلغي 20 عاماً». تحسب لوالدها وزوجها مواقف مهمة، فقد «سبقا عصرهما بمعايير ذلك الزمن». الأوّل لم يجبر بناته على الزواج ممن لا يحببن. والثاني شجّعها على أن تمارس حياتها المستقلّة بحريّة، وكان أن انخرطت في «لجنة حقوق المرأة اللبنانية».
علاقات زوجها مع أعضاء «الحزب الشيوعي» جعلتها تنفتح على فهم الأوضاع السياسية والاقتصادية أعمق. حتى تلك الحقبة، اقتصرت معرفة ليندا بالسياسة وشؤونها على ما تسمعه من أخبار، وما تقرأه في جريدة «صوت الشعب». لكن عام 1951، تبدّلت حياتها، وبدأت رحلتها النضالية. تذكر جيداً قصة انتسابها إلى «لجنة حقوق المرأة اللبنانية». كانت المرأة لم تحصل بعد على حقّها في الاقتراع. في يوم الانتخابات، قرعت بابها فتيات يحملن عريضة تطالب بمنح المرأة حقّ التصويت (نالته عام 1953). وقّعت ليندا مطر على العريضة من دون تردد، وطلبت الانتساب إلى اللجنة، وبدأت تتدرّج فيها. بعد فترة، انتخبت رئيسة لفرع منطقة عين الرمّانة، ثمّ أمينة للسر، إلى أن انتُخبت رئيسة لـ«لجنة حقوق المرأة اللبنانية». كان ذلك في عام 1978، ومنذ ذلك التاريخ وهي تشرف على شؤونها وتدير
نشاطاتها.
خلال حفلة تكريمها العام الماضي، قالت مطر: «اليوم أصبح عمري 57 عاماً». بالنسبة إليها، العقود الستة من حياتها التي تلت انتخابها في اللجنة، هي عمرها الحقيقي، أمضت نصفه في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومواجهة شبح الحرب الأهلية، ونصفه الآخر في النضال من أجل حقوق المرأة. إلى جانب مسؤولياتها في اللجنة، انتمت إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وقد ساعدها على الجمع بين الانتماءين سرية العمل الشيوعي آنذاك. وقد ساهمت قراءتها لمؤلفات ماركس وأنغلر، في مساعدتها في فهم قضايا المرأة بشكل أعمق، واكتسابها وعياً أكبر لحقوقها.
حين تولّت مطر رئاسة «لجنة حقوق المرأة اللبنانية» في خضمّ الحرب الأهليّة، سارت على قاعدة «الوطن أولاً وحقوق المرأة بعد ذلك». خلال تلك الحقبة المؤلمة، تطوّعت مطر واللجنة مع جمعيات أخرى لمساعدة الناس، وبلسمة آلامهم النفسيّة والجسديّة... وأخذت على عاتقها مهمة التجوال بين البيوت «لدحض الصورة التي أطلقها الإعلام آنذاك عن أن الحرب في لبنان طائفية».
في عام 1980، حين هدأت البنادق قليلاً، وحّدت «لجنة حقوق المرأة اللبنانية» وجمعيات أخرى جهودها، لتطلق ميثاق حقوق المرأة. لكنّ قسوة الاجتياح الإسرائيلي أعادت العمل الميداني إلى الخانة الأولى، وأجبرتها على وضع حقوق المرأة جانباً. في تلك الفترة، ساهمت مطر في إنشاء مستوصفات متنقلة لمداواة الجرحى، إضافةً إلى مشاركتها في إعلان إطلاق «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية». هكذا، قست الظروف على الجمعيات النسائية التي لم تلتقط أنفاسها إلّا مطلع التسعينيات. بعد نهاية الحرب، استعادت مطر النضال من جديد. شاركت عام 1995 في «المؤتمر الرابع لحقوق المرأة» الذي نظّمته الأمم المتحدة في بكين، وقدمت محاضرة عن «المرأة والنزاعات المسلّحة». ومذذاك وهي تنتقل من مهمّة إلى أخرى... عام 1996 نجحت بالتعاون مع الجمعيات النسائية في حمل الدولة اللبنانية على إبرام اتفاقية «إلغاء أشكال التمييز ضد المرأة» مع الأمم المتحدة، رغم تحفّظها على بنود مهمة كمنح الجنسية وقضية الأحوال الشخصية.
العام الماضي، تخلّت مطر عن رئاسة «لجنة حقوق المرأة اللبنانية»، رغم مطالبة كثيرين ببقائها. تبدي مطر إعجابها بما تحقق منذ نصف قرن حتى اليوم. «المرأة ناضلت ونالت حقوقها في مجالات عديدة، بدءاً بإقرار حقها بالتصويت، ومروراً بتحسين ظروفها في العمل». لكن ما زالت ليندا مطر تنشط مع الجمعيات المعنية يومياً من أجل إعطاء المرأة حقوقاً أخرى، أبرزها حقّها في منح جنسيتها لأولادها. برأيها، تبذل الجمعيات النسائية اللبنانية اليوم «مجهوداً جيّداً تشكر عليه، لكن لا بد من توحيد الجهود والقضايا». أكثر ما يؤسفها هو «غياب ثقة المرأة بالمرأة، وعدم تصويتها لها في الانتخابات». ترى أنّ عدوّ المرأة الأول هو النظام الطائفي. «يجب إلغاؤه واعتماد قانون مدني واحد للأحوال الشخصية، للتخفيف من ذكوريّة المجتمع والقوانين، وإعطاء المرأة حقوقها كاملة».
أمّا المساواة، فلا تشغل بالها كثيراً بتعريفاتها. ثمّة ما هو أهم: يجب أن يستمع الرجل والمرأة واحدهما للآخر... وقبل كل شيء، يجب الاعتراف بأنّ «عقل المرأة كامل».



5 تواريخ


1925
الولادة في بيروت

1951
الانتساب إلى «لجنة حقوق
المرأة اللبنانية» وبعد عامين،
أُقرّ حقّ اللبنانيات بالاقتراع

1978
تسلّمت رئاسة
«لجنة حقوق المرأة اللبنانية»

1995
اختارتها مجلة
«ماري كلير» الفرنسية ضمن لائحة مئة سيدة يحرّكن العالم

2011
تعدّ لمجموعة تحركات
بصفتها عضوة في قيادة «الاتحاد النسائي الديموقراطي العالمي»