قبل عامين، غادرت رجاء بن سلامة الجامعة التونسية رفضاً لسياسة الوصاية والتدجين التي فرضها النظام السابق. لكنّها لم تعتزل التحريض على الثورة. وبعد انتصار الثورة في كانون الثاني (يناير) 2011، عادت من القاهرة إلى بلادها. رجعت على جناح الأمل، من أجل المساهمة في التغيير، سواء من خلال عملها الأكاديمي في «كلية الآداب والعلوم الإنسانية» في منوبة، أو نشاطها في نشر ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة، مع رفاقها من المدافعين عن تونس العلمانيّة. عادت إلى بلاد الطاهر الحداد، وهي تعرف أن فتوى إهدار دمها تنتظرها في ساحة «الباساج» في قلب العاصمة، حيث توعّد أوصياء الدين الجدد بشنقها.
لكنّها لم تخشَ أن تكون «شهيدة الحق الليبرالي»، كما وصفها الباحث شاكر النابلسي في مقال دافع فيه عن «الدكتورة الزنديقة».
في تلك الساحة التي تعجّ بالسلفيين، التقيناها مرتين. كانت «سافرة» بحسب معجم الترويكا الحاكمة في تونس اليوم. لا تزال كما عرفناها منذ منتصف التسعينيات، أستاذةً لمادّة الأدب القديم في كليّة منوبة. في الساحة، لم تقف خائفة، بل معتدّة بذاتها، متأنقة، ودائمة الابتسام. حدّثتنا عن الثورة، وما يتهدّدها من أسوار دوغمائية. تواعدنا على اللقاء مرّة أخرى، في واحدة من مسيرات الحريّة التي لا تخلو منها شوارع تونس هذه الأيّام.
تتمسّك الباحثة والأكاديمية التونسيّة بفكر الاختلاف، والنقد والتحرر. ربما لأنّها ولدت في مطلع الستينيات، أي في العقد الذي هبّ فيه الطلاب الباريسيون لدكّ أركان البديهيات الثقافية والسياسية والجنسيّة، وقضوا على الهيبة الأبويّة في العائلة، وهيبة رأس المال في المصانع، وهيبة الأساتذة في المدارس. بن سلامة هي ابنة تلك الحقبة التي شهدت صعود حركات تحرر المرأة في أوروبا، وانهيار الأنظمة الشموليّة، وانفجار أفكار دوبوفوار، وبورديو، ودريدا، وفوكو، وبارت.
«أنا ابنة فكر الاختلاف، وامرأة حرّة في عشقي وحبري». بهذه الجملة تقنعك صاحبة «نقد الثوابت» (دار الطليعة/ 2005) بأنّ تاريخ الميلاد ليس مهماً، بل السياق الذي نولد فيه. ولدت رجاء في مدينة القيروان في الوسط التونسي، وهي مدينة عقبة بن نافع، وابن رشيق القيرواني، والإمام سحنون، وعلي الحصري، وابن الجزار. هي ابنة عائلة بن سلامة التي تقول كتب التاريخ إن جزءاً منها سافر إلى تونس مع عقبة بن نافع خلال الفتوحات الإسلامية، في حين حلّ جزء ثان منها في الجزائر والمغرب مع طارق بن زياد. مدّت سليلة بن سلامة فتوحاتها إلى ميدان العلم والأدب، وصارت في هذا المضمار، لا تعترف بأيّ حدود. هكذا، حازت عام 2001 دكتوراه دولة في اللغة والأدب والحضارة العربيّة، عن أطروحة حملت عنوان «العشق والكتابة: قراءة في الموروث». كما حازت العام الماضي ماجستير في التحليل النفسي من باريس، وهي المدينة التي تزورها كلّ شهر تقريباً.
قد يكون خلق ميلها إلى علم النفس تأثرها بشقيقها فتحي بن سلامة المحلل النفسي المعروف، صاحب «الإسلام والتحليل النفسي» الكتاب الذي عرّبته رجاء وصدر عام 2008 عن «دار الساقي». لكنّ الأكيد أن من بين دوافع هذا الميل، ما تفسّره في كتاباتها: «لم يبرح طيف شهرزاد ذاكرتي ومخيّلتي، منذ أن كنت أصغي إلى الخرافات. انهمكت في لملمة خرافتي، وبناء ذاتي». أوليس علم النفس التحليلي أداةً معرفيّة ناجعة لتفكيك النفسيات المنغلقة على ذاتها والمتقوقعة في دوامة التقديس؟
تدرك رجاء بن سلامة ماذا تختار من إرثها الحضاري والثقافي. تختار أن تتدرب على التمرّد، لتشقّ أفقها التحرّري بعدما قاتلت الموت في منجزها النقدي «الموت وطقوسه من خلال صحيح البخاري ومسلم». أصدرت الكتاب عام 1997، عن «دار الجنوب»، بعد وفاة والدها، وعرّت فيه الموت والطقوس الجنائزية، بما تملكه من معاول أنثروبولوجية ومعرفية، بعيداً عن ثقافة الخوف والترهيب وعذاب القبر.
أمام طلاب «كلية الآداب والعلوم الإنسانية» في منوبة، تفتح رجاء بن سلامة نصّها. تعلّمهم كيف يشيدون سماءً أوسع من اللغة، وكيف يتجرأون على إشعال الحرائق في بيادر المسلمات والبديهيات والحقائق الجامدة. غير أن هذا النص المفتوح، وهذا المنهج المتحرر، دفعا ببعض الأصوليين والمتشددين إلى «تجنيد» طالبات، لكتابة شهادات ضد أستاذتهن، واتهامها بالتهجّم على الإسلام والقرآن. كلّ ذلك لم يثنِ رجاء بن سلامة عن السير في خطوات متقدّمة في نقدها للفكر الديني والمجتمع الذكوري، من خلال مؤلفاتها التي تعدّ إضافة نوعية إلى المكتبة العربية الحديثة، وخصوصاً «صمت البنيان» (المجلس الأعلى للثقافة في مصر/ 1999) و«نقد الثوابت» و«بنيان الفحولة» (دار بترا/ 2005). فما كتبته «لم يكن من السهل نشره». لكنّ تمرّدها في الكتابة لم يكن إلّا جسراً لعبورها نحو الممارسة الميدانية، فكانت من أوائل المنخرطات في «الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات»، تلك التي قضّت مضجع النظام التونسي السابق. كما كانت عام 2007 من بين المؤسسات لـ«رابطة العقلانيين العرب» دعماً للمشروع التنويري العربي. كما أشرفت على مجلة «الأوان» الإلكترونية منبر الرابطة وفضائها الحر.
يندر أن تقع بين يديك عريضة، من دون أن تعثر فيها على توقيع «رجاء بن سلامة، كاتبة وباحثة» (هكذا توقّع). كما أنّ هتافاتها في المسيرات المدافعة عن الحريات تنقر مسامعك من بعيد، فتغريك بأن تتوقف عند هذه السيّدة التي تترك أريكتها الدافئة في منزلها الواقع في حي النصر الراقي، وتنزل إلى الشارع جنباً إلى جنب مع البسطاء والفقراء، لتواجه هراوات البوليس، وغازاته المسيلة للدموع.
على صفحتها الفايسبوكيّة، تسبّب مواقفها سيلاً من التعليقات كلّ يوم. هي كائن افتراضي بامتياز، يصعب مجاراة نسق إبحاره على الشبكة. هي موجودة في كلّ الأوقات، كتابةً وتعليقاً ونقاشاً، إلى درجة تشكّ أنها تقاسم مارك زوكربرغ، ملكيّة موقع التواصل الاجتماعي الشهير. «نستعمل الفايسبوك كوسيلة اتصال، ولا نتركه يستعملنا كوسيلة إعلام مشوّهة ولا مسؤولة»، هكذا تتعامل بن سلامة مع المارد الأزرق. ومن يدخل صفحتها، سيعرف أن هذه المرأة جُبلت على المواجهات. تكتب عن الجهل المقدس، وعن رجال الدين المقنّعين، وعن الخطر السلفي. تدعو إلى مأسسة الثورة التونسية، ومقاومة المسامير الصدئة، وتحرّض على مقاومة الخوف والتردد لدى الخائفين أو من يعيشون «فانتازم» السيناريو الجزائري.
في فلك الحب «الصيغة الوحيدة الممكنة للتوليف بين الدوافع الجنسية العمياء والقيم الإنسانية»، تدور رجاء بن سلامة. كما تغري كلّ من يقترب منها إلى الدوران في فلك الحب نفسه. تفعل ذلك ببساطة، إن تكلمت أو كتبت، إن ردّدت جملة موسيقية أو رقصت في جلسة خاصّة. حتى في غضبها تتأجّج حباً. كأنّها تذكّرنا دوماً بأنّها مؤلفة «العشق والكتابة»، ذاك الكتاب الذي هتكت فيه أحجبة الحب الأخلاقوية، وحفرت عميقاً في أخاديد الخطاب العشقي، المسوّر بالعذرية والصوفية والأبنية الأسطورية واللاهوتية.



5 تواريخ

1962
الولادة في القيروان (تونس)

1997
أصدرت كتابها النقدي الأوّل «الموت وطقوسه من خلال صحيح البخاري ومسلم» (دار الجنوب)

2001
نالت دكتوراه دولة في اللغة والأدب العربي عن أطروحة بعنوان «العشق والكتابة: قراءة في الموروث»

2007
شاركت في تأسيس «رابطة العقلانيين العرب» في باريس

2012
تشارك من خلال «المعهد العربي لحقوق الانسان» في تنظيم «منتدى الانتقال الديمقراطي والمواطنة» تحت شعار من «أجل العيش معاً»