«برز الخطّ في الحضارة العربية كأعظم الفنون، وأغناها وأكثرها رقيّاً. هو بحقّ من أولى الصنائع الإنسانية، بل في مقدمتها. هو عطاء روحي من الذات والفكر والنفس والأصابع. به يكتب التاريخ وتشيع الثقافة وتفصح الشعوب عن أمانيها، وطرائق الحياة، وعلاقاتها بالآخرين». كلمات يستهل بها الخطاط المحترف علي عاصي اللقاء معه في قصر الأونيسكو، حيث يداوم كموظّف في «وزارة الثقافة». عاصي اليوم شيخ الخطاطين في لبنان، رغم قلتهم وتراجع الاهتمام بفنّ الحرف وممتهنيه. تجاوزت شهرته العالم العربي، إلى أوروبا وأميركا واليابان. لم يشغله شيء في حياته كلّها كالخط العربي. كان ذلك هاجسه الوحيد، منذ كان في الخامسة. في ذلك الحين، أرسله والده الأميّ ليتعلم القرآن على يد شيخ البلدة، وكان «من البديهي أن أتعلّم عنده الخط الجميل، لأنّ السائد كان الخط القرآني»، يقول. «الخط العربي حافظ على القرآن، لا العكس. أن ينتشر القرآن يعني أن ينتشر الخط. في الفتوحات الإسلامية، كان الخطاطون يتهافتون على كتابة القرآن، كان يتم اختيار الخط الجميل لتقريب الناس من القرآن أكثر». بدأ صاحبنا إذاً بتعلم الخط مع تعلم القرآن.في بيئة متديّنة، ولد علي حسين علي عاصي في أنصار (جنوب لبنان) عام 1946. في السادسة من عمره، التحق بمدرسة البلدة «وكان أساتذتها يهتمّون بالخط». قال له والده، وكان طويل القامة ذا صوت عسكري: علِّمني كيف أكتب اسمي. خفت منه فعلّمته. في اليوم التالي، قال لي: حسّن خطّك. فأدركت أنّ خطي مراقب يجب تحسينه. صرت أحسّن خطي وأضحت دفاتري محطّ اهتمام رفاقي».
ما لاقاه علي عاصي من اهتمام بالخط في الصفوف الابتدائية الأولى، وجد صداه في مدارس النبطية التي انتقل إليها لاحقاً لمتابعة الصفوف الابتدائية، ثمّ المتوسطة، وتوافرت فيها مجموعة من الأساتذة الوافدين من مناطق كثيرة، كان يوحّدهم الاهتمام المتقدّم بالخطّ العربي. في النبطية، صادف عدداً من التلاميذ يحبّون الخط ويهتمون به. «كنّا نتبارز، شعروا بأنني أحسن منهم، فبدأت أتباهى بنفسي. ولأن خطي صار جميلاً، صرت موضع اهتمام أساتذتي، حتى همس أحدهم في أذني، من يرد أن يتعلّم الخط، فعليه أن يتعلم أنواعه».
في عام 1962، انتقل علي عاصي إلى «دار المعلمين» في صيدا، وصار يشاهد اللافتات، والكتابات على الجدران، وصارت مساحة الهواء المطلوبة لمعرفة الخط أكبر. أسهم في نمو معرفته انتشار الصحف التي بدأ يراقب خطوطها. في «دار المعلمين»، شجّعه «الخوري» يوسف الخوري ... في هذا الوسط «بدأت أعرف الرسم والخط». في عام 1966، تخرّج معلماً، وكان نصيبه التعليم في مدرسة بلدته أنصار، ناقلاً إلى تلامذتها جمال الرسم والخط. «كنت أعلّم من كلّ قلبي، أجعل التلميذ يرسم الخط. ولأن الخط لم يكن يدخل في المناهج، ذاع صيتي، فصار أهل الضيعة يأتون إليّ بلافتات لأكتبها، لكن من دون أدنى أجر».
نقلة نوعية سجّلت أثرها في حياة علي عاصي، عام 1981، حين شجّعه رفاقه على الانتقال إلى بيروت. قالوا له: «إن عالمك في بيروت. هنا ستبقى غير معروف». نقل وظيفته بصعوبة إلى العاصمة، والتحق بـ«مدرسة التضامن» في برج البراجنة، وشجّعه مديرها محسن علامة على ممارسة التخطيط. دخل الصحافة من باب مجلة «الديار». ساعده الخطّاط بهيج عنداري على تولّي مسؤولية الخطّ في المجلة، قبل الانتقال إلى «السفير». هناك تعرّف على محمود برجاوي. «أحبّني وقال لطلال سلمان: أريد هذا الرجل معي، كانت «السفير» مدرسة. كان فيها أجمل خطوط المانشيتات، صرت أكتب العناوين وصنّفت درجة ثالثة. تمرست لأنني كنت أتناول الموضوع بأكاديمية وموضوعية، هكذا وصلت واشتهرت». كتب للصفحات الثقافية والفنية والرياضية في «اللواء» ومجلة «الأفكار» ومجلة «آسيل».
في بيروت، دفعه الضجر والشعور بالفراغ بعد التدريس إلى امتهان هوايته. خلال تلك الفترة، أتمّ إجازة في التاريخ، كما عرّج على «معهد الفنون الجميلة»، حيث درس المسرح لسنتين، والرسم والتصوير لسنتين. بسبب الحروب، ركّز على الخط واحترفه، إلى أن أتى الكومبيوتر ليخرّب كل شيء، «بوّر العلاقة بيننا (أي الخطاطين) وبين المجتمع». غير أنّ صاحبنا الذي ظلّ يحترم الخط، لم يستسلم. «عندما شعرت بأن ثمّة شيئاً سيتفجر مني، بدأت بكتابة اللوحة، ربما من دون رضى كامل، وهذا دليل على احترامي الحرف، وهذه حال من يطبخ الطعام مثلاً، فلا يعجبه هو، بل ينال إعجاب الآخرين».
برأي علي عاصي، فإنّ للوحة الخطية مقاماتها، وقواعدها وأصولها، وتراكيبها. حين صار ممسكاً بمفاتيحها، أنجز لوحاته الخاصّة وأقام معارض بين لبنان واليمن وألمانيا وسوريا، ومنها معرض لوحات حروفيّة صغيرة (قياس 15 × 15 سنتمتراً) بعنوان «البدء كلمة: فاقرأ» في المتحف الوطني في دمشق. «أحب أن أخرج الحرف من عقاله التقليدي، ورأيت أنّ الناس يبحثون عن كل ما هو غريب. نحن لن نعري الجيم من نقطتها، ولا حرف الزين، ولا السين من أسنانها، نريد تطويعها فقط، حتى إذا نظرت نحو اللوحة تحظى بمتعتين، متعة المبنى ومتعة المعنى، بصرية وفنية».
في البحث عن إرث الخط، تنبّه عاصي إلى خطوط مقبرة الباشورة (بيروت). دخل إليها ليكتشف خطوطاً يعود عمرها إلى أكثر من 200 سنة، هي من عيون الخط العظيم، تعود إلى عهد السلطنة العثمانية. في تلك الحقبة، كان فنّ الخطّ يعيش عصره الذهبي، لأنّ السلاطين كانوا خطاطين. صوّر ما اكتشفه، وأنجز حوله كتاباً صدر تحت عنوان «مدافن الباشورة، بيروت. الخط العربي فن وصلاة» (2010)، عن «وزارة الثقافة» ضمن تظاهرة «بيروت عاصمة عالمية للكتاب».
خبرة علي عاصي علّمته أن يد الخطاط تحتاج إلى تدريب يومي كي لا تيبس. وحين يخطئ، يلعق مكان الخطأ بلسانه، فيعلق عليه الحبر. «حين تتكوّم كمية الحبر لتصير بحجم دواة (محبرة) على لسانه، يصير خطّه جميلاً. لذلك يقال لا يصبح الإنسان خطاطاً إلا إذا لذع لسانه بالحبر. أنت تشعر بالخط لأنّك تتذوقه».
يشتغل شيخ الخطاطين اللبنانيين الآن على كتاب يتناول التبسيط في الخط العربي. «جمال الخط العربي أنه أشكال تتناغم بعضها مع بعض. أخال الحرف مأخوذاً من إيحاءات ثلاثة، الحصان والطير والمرأة». يستغرب كيف أضحى الخطّ مادّة غير مطلوبة، في وقت أدخل فيه الإعلام كرة السلة مثلاً إلى كلّ بيت. يتمنّى لو تبادر الدولة إلى وضع مناهج تربويّة للخطّ في المدارس، و«أنا أتبرّع، مثل كثيرين غيري، للمشاركة في الإشراف عليها». يعمل حالياً على فرنجة لوحات من كلاسيكيات الخطّ العربي، لكي يصل إلى غايته، وهي أن يدرك الناس أنّ الحرف العربي أساس وليس رافداً. «الحرف العربي هو النهر العظيم، والباقي روافد، بدليل أنّ الأوروبيين يملكون استعداداً لاستخدام الحرف العربي في أعمالهم، وعندهم ما يشبه عشق له، أمّا نحن فلا نعرف قيمته. بتنا نقلد الغربيين في خطوطهم، والنبع عندنا».



5 تواريخ

1946
الولادة في أنصار (قضاء النبطيّة/ جنوب لبنان)

1981
بدأ التخطيط في جريدة «السفير» اللبنانية

2002
كتب خطوط النسخة العربية من الكتاب المصور «الأرض من السماء» ليان أرتوس برتران (منشورات لامارتينيير)

2009
صدرت له سلسلة دفاتر تعليم الخط العربي في المدارس الرسمية والخاصة، بعنوان «خطي العربي الجميل» وهي من ستة أجزاء

2012
كتب خطوط «كتاب الهمزة» لرشا الأمير الصادر عن «دار الجديد»