يعمّ الهدوء في أسواق بنت جبيل. العدوان الإسرائيلي المستمر منذ سبعة أشهر، أجبر الكثير من أهلها وزوّارها على النزوح. قلة المقيمين في المدينة ومحيطها، دفعت غالبية أصحاب المحال إلى الإقفال أو افتتاح فرع بديل في مناطق أكثر أمناً. الإقفال انسحب على سوق الخميس الشعبي. ورغم شلل الحركة الاقتصادية، إلا أنّ بعضهم رفض إقفال محله، أبرزهم مفيد شرارة الذي يواظب يومياً على فتح ورشة صناعة الأحذية وتصليحها في ساحة النبية في وسط المدينة. يقرّ ابن الرابعة والثمانين عاماً بأنّ مهنته ليست من ضمن الحاجيات الرئيسية في زمن الحرب. ويعتبر بأنه كلما فتح محله كل صباح «يقاوم العدوان ويتصدّى لإسرائيل. فكل إنسان يجب أن يبقى ثابتاً في أرضه».في المحل العتيق، يحتفظ شرارة على الرفوف بأحذية طبّية صنعها بيديه وبآلات خياطة تراثية. نجله علي يساعده ويسلّيه في وحشة السوق. يصعب على أبو فريد أن يقتنع بجدوى النزوح من بنت جبيل رغم استهداف إسرائيل عدداً من المنازل في وسط البلدة وسقوط شهداء مدنيين. «هذه البوم بوم (أصوات القصف والغارات) لا تؤثر بي. أؤمن بأن لكل إنسان ساعة. لذلك أنا قاعد ومش فرقانة معي». يستعرض تاريخه الحافل مع العدو في المدينة التي صارت عاصمة المقاومة والتحرير. «طول عمرنا، إسرائيل تعتدي علينا ونقارعها». عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، تعلم شرارة مهنة صناعة الأحذية على يد شقيقه الأكبر في سوق بنت جبيل الذي كان يضم عشرات معامل الأحذية. وبسبب الفقر والاعتداءات الإسرائيلية، قرر السفر إلى ليبيريا في الخمسينيات لتحسين ظروفه المعيشية. بعد ثلاثين عاماً، قرّر العودة محمّلاً بما جناه من أموال. افتتح في حي ماضي في الضاحية الجنوبية مصنعاً للأحذية. وقبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1978، اشترى محلاً في ساحة النبية. أثناء اجتياح عام 1982، كان أبو مفيد في زيارة إلى بنت جبيل. وعندما أطبق الاحتلال من الجنوب حتى بيروت، اتخذ قراره التاريخي بالاستقرار في بنت جبيل إلى الأبد. «عدت إلى بيروت وحمّلت معدات المصنع ونقلتها إلى محلي في سوق بنت جبيل حيث لا أزال حتى الآن». بعد أكثر من أربعين عاماً، لم يشعر شرارة بالندم لأنه اختار الاستقرار مع عائلته في بنت جبيل تحت الاحتلال، رغم إمكاناته التي خولته العيش في ظروف أفضل. «أنا هنا مبسوط ومرتاح. عايشت قهر الاحتلال وعايشت تحرير عام 2000 ثم عايشت نصر تموز 2006 وسأحتفل بالنصر المقبل في 2024». يوقن شرارة بأنّ «الحق سينتصر كما أثبتت تجارب الشعوب حول العالم».
على الحائط، علق شرارة مخطوطة تقول: «الحرب بالناظور هين». يهزأ من المزايدين على الجنوبيين في انخراطهم بمواجهة إسرائيل منذ الثلاثينيات وحتى «طوفان الأقصى». يجزم بأنّ «من حمى وجودنا وثباتنا في أرضنا هي المقاومة ولا شيء سواها».