توفي ألبير قصيري في 22 حزيران (يونيو) 2008 عن عمر يناهز الخامسة والتسعين عاماً، إلا أنه لم ينجز سوى ديوان شعري واحد مفقود ومجموعة قصصية وسبع روايات، ورواية لم تكتمل لوفاته.
ربما ليس هذا المنجز بكبير على مستوى الكم، لا سيما أنّه بدأ الكتابة في سن العاشرة والنشر في سن السابعة عشر. لكن عندما تكون الكلمة؛ بل الحرف عزيزاً لدى الكاتب، فإنه يدقق ويُقل في كتاباته. لم يكن قصيري يكتب ثم يُلقي في سلة القمامة أو يستخدم الممحاة. كان ذلك نادراً، فهو كما قال في أحد حواراته مع مجلة «لو ماغازين ليتيرير»: «تقريباً لا أستخدم الممحاة. أتريث في الكتابة حتى أجد الكلمة المناسبة. فقد أظل أبحث عنها لأيام، ليست هناك جمل مجانية في كتبي؛ لذلك أكتب ببطء». في باكورة أعماله وهي مجموعته القصصية الوحيدة «بشر نسيهم الله»، كان قد نثر بذور ــــ أفكار وعوالم وديكور وشخوص ووظائف هذه الشخوص ـــ رواياته السبع التالية.
إن قصيري حكاء بديع. وفي هذه المجموعة، يظهر بذخ الأفكار التي سيتمكن من معالجة الكثير منها في ما بعد على نحو أكبر. وهذه المجموعة كتبها في سن مبكرة وهو ما زال بعد في السابعة عشرة. ولقد احتفى به وبها هنري ميللر عبر هذه الكلمات: «لم يصف أي كاتب حيّاً على هذا النحو الموجع والصُلب، حياة أولئك الذين يشكلون - في الجنس البشري- الحشد الضخم المبتلع».
النوم، تعاطي الحشيش، السخرية، نقد السلطة القمعية والجائرة، الثورة، اللصوص، المتسولون، الفانتازيا... هذا ما كان في مجموعته الأولى وما كان في رواياته التالية، ولكن على نحو موسع.
ليس ذلك لنضوب فكره أو لضيق عالمه لكن لأنه يحاول أن يعبر عن الإنسان وعن مشاكله وأزماته التي ربما تتلخص لديه في وجوده على قيد الحياة وأن يكون حرّاً. أو كما يقول الناقد الفرنسي فريدريك ساينين عن الشخصيات التي يصورها قصيري: «إنها بشكل أساسي أﭭاتارات أناه الخاصة، التي يشكل ملامحها لإقامة كيانات مستقلة وراسخة: الكسالى، الشهوانيون، اللواطيون، المحتالون والمفسدون والبغايا، والإرهابيون، والمشعوذون، والمتغندرون في حالة يرثى لها والأثرياء اللاأخلاقيون. إن قصيري لا يرى نفسه روائيّاً ولا كاتباً قصصيّاً؛ بل صاحب أفكار يعبر عنها من خلال شخوصه. ولذا قرب نهاية حياته قال: «لقد قلت تقريباً ما كنت أود قوله».
لكن علينا أن نتساءل: لماذا لم تغادر مصر وحاراتها ورائحتها وشخوصها ومهمشوها، بل قاعها من المتسولين واللصوص والداعرات...، عقل وروح وذاكرة وكتابة ألبير قصيري؟
في هذا السياق، أشار الكاتب الراحل إدوار الخراط إلى أنّ قصيري كان ينحو إلى نوع من الغرائبية، وعلى الأخص في تسمية أبطاله الذين يعطيهم أحياناً أسماء يصعب تصديقها! أو لم نسمع عنها قط كأنها منحوتة من مزيج العامية المصرية والفرنسية. كما نجد الناقدة الرومانية لافينا أدينا هورنر في «جامعة تينسي» في نوكسفيل تورد في أطروحتها «خيال ألبير قصيري، صيغة لتجاوز الزمان والمكان» أن هذا الأمر كان بمثابة عملية إثبات لوجود قصيري؛ فكما يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت «أنا أشك، إذن أنا موجود».
يبدو أن قصيري كان يكتب عن مصر ليتأكد من وجوده. الكتابة هي الميراث العيني والمحسوس والحقيقي الذي نتركه؛ أو كما قال في إحدى مقابلاته في مجلة «لو ماغازين ليتيرير»: «لقد غادرت مصر، لكني لم أود أن تغادرني». أو بمعنى آخر إذا كان مارسيل بروست في رواية «بحثاً عن الزمن المفقود» يجعل الحواس هي من تطلق الذاكرة، فعلى سبيل المثال تذوق حلوى المادلين يجعله يتذكر مرحلة الطفولة؛ نجد في حالة قصيري الأمر معكوساً. إنه يستخدم ذاكرته حتى ينشط وينعش حواسه من أجل أن «يشعر بـ» و«يرى» مصر. كما يقول أيضاً «أحافظ على هويتي الشرقية. أنا مثل شخصياتي». لقد حملها بداخله وفي كتاباته إلى درجة أنه نجح في أن يحيا مصره الخيالية.
إن الكتابة بالنسبة لقصيري هي بمثابة علاج. لقد حظي من خلالها بعيش لحظاته الماضية مجدداً. لحظاته الهاربة أو بمعنى أدق إنه في محاولة للبحث عن زمنه المفقود حتى يخفف ندمه على عدم وجوده هناك (في مصر) الآن ولتخفيف حالة النوستالجيا.
إننا نرى في مجموعته "بشر نسيهم الله" كما في باقي أعماله مشهداً لعالم ذي وجهين: وجه واضح، جلي، ذلك هو وجه المشهد الذي تدور أحداثه على المسرح، وجه مرئي بالنسبة للجميع، يشكله البوليس، الوزراء، الأثرياء. ووجه خفي، مبهم، ذلك هو وجه الأحداث التي تدور في الكواليس حيث نجد الشحاذين، متعاطي المخدرات، اللصوص، الداعرات، والفقراء. عالمان لا يفهم كل منهما الآخر. فلا يستطيع الأثرياء فهم الفقراء، ولا يستطيع الأميون رؤية ما هو واضح بالنسبة لهؤلاء المثقفين. وبالتالي إدراك العالم يمر عبر المُرَشِح بكل شخص. وفي هذين العالمين، يتماهى قصيري مع شخصياته ليواصل حياته بمساعدتها. فهو بنفسه في حديث لمجلة "النوافذ الفرانكوفونية" يؤكد: «كل شخصياتي هي ألبير قصيري». لذا نجد الكاتب ، حتى لو وصف مشهد العالم والآخرين، فإنه في نهاية المطاف سيصف نفسه أيضاً لأنه مثل شخصياته.
بالرغم من قولنا إن مجموعته الأولى «بشر نسيهم الله» هي البذرة الأولى لكل أعماله الروائية التالية، فهل يسعنا أن نقول: إن فكرة الثورة فيها تنحو إلى فعل خارجي يشتبك مع العالم، بينما في أعماله التالية سيكون الأصل في الثورة السخرية؟ على سبيل المثال، نجد في قصة «البنت والحشاش» فايزة التي تهرب من أهلها، أو في قصة «ساعي البريد ينتقم»، يحاول زوبا البوسطجي أن يغير من أهل الحي، من حنفي الذي حوّل دكانه لغرزة لتدخين الحشيش، إلى ثورة الكناسين التي قوبلت بالقمع، وأمثلة أخرى كثيرة. إنها لوحة فريسك رسمها قصيري للشعب المصري منذ أكثر من سبعين عاماً، إلا أنها لا تزال تحتفظ بنضارتها وحيويتها كأنها رسمت اليوم، ولن تسقط صلاحيتها الفنية أو الفكرية بالتقادم؛ لأنها لوحة الإنسان التي ستبقى ببقائه.

مترجم مجموعة «بشر نسيهم الله» التي صدرت أخيراً عن «دار الهلال»