عود على بدء إلى «سجلّ الشعر العربي» لنستهل هذه العودة بالقصيدة/ المفصل «حزن في ضوء القمر» التي كرّست صاحبها الشاعر السوري محمد الماغوط (1934-2006) واحداً من رواد قصيدة النثر العربية، فالديوان الذي صدر عن دار مجلة «شعر» في بيروت عام 1959 واتّخذ من القصيدة عنواناً له، كان بمثابة القنبلة التي حمل الشاعر الصعلوك صاعقها الشعري المتفجّر بكل مفاجآته وتوتراته وانقلابه على البنية الكلاسيكية والتفعيلية للشعر العربي لتكون الإجابة العربية على سؤال بودلير الشهير: هل يمكننا أن نجترح من النثر قصيدة؟ شقّت قصيدة الماغوط هذه طريقاً وحدَها، كأن صاحبها بصَر بما لم يبصُر به غيره: كان نصّه يؤسّس لمدينة شاعرة خارجة عن الترميز الأسطوري والفولكلوري، نصّ حادٌّ كالنصل يواجه بلا مواربة الزمن العربي المعلق والإشكالي وغير المعترف به. إنه نص مزركش بفتنة الحانات وارتجالات الشارع والإيقاع المونولوغي الحواري لحياة التجوال واستعمال تقنيات المونتاج والكولاج لمقاربة مفارقات تلك الصورة المدينية الصاخبة، ونبذ لـ«الروح الريفية» التي لطالما تلطّى بها الكثير من الشعراء العرب لتجميل الجرح القومي والإيديولوجي النرجسي الذي أكثر ما يتفجّر في اللغة، وتحديداً في الشعر. جاء نص الماغوط أشبه بموسيقى الجاز التي شاغبت على السمفونية عند اكتشاف المدينة، اكتشافها لا كاستعارة، لكنْ كحياة، كمكان وزمان، كفهرست ضخم وخارطة مبعثرة وحياة ليلية وقدرة كما عند بودلير على اجتراح قصيدة للأزهار المريضة: «من أعماق النوم أستيقظ/ لأفكر بركبة امرأةٍ شهيةٍ رأيتها ذات يوم/ أعاقر الخمرة وأقرض الشعر/ قل لحبيبتي ليلى/ ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين/ إنني مريضٌ ومشتاق إليها».


أيها الربيع المقبل من عينيها
أيها الكناري المسافر في ضوء القمر
خذني إليها
قصيدةَ غرامٍ أو طعنةَ خنجرٍ
فأنا متشردٌ وجريحٌ
أحب المطرَ وأنينَ الأمواج البعيدة
من أعماق النوم أستيقظ
لأفكر بركبة امرأةٍ شهيةٍ رأيتها ذات يوم
لأعاقر الخمرة وأقرض الشعر
قل لحبيبتي ليلى
ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين
إنني مريضٌ ومشتاق إليها
إنني ألمح آثارَ أقدامٍ على قلبي
دمشق يا عربةَ السبايا الوردية
وأنا راقدٌ في غرفتي
أكتب وأحلم وأرنو إلى المارةِ
من قلب السماء العالية
أسمع وجيبَ لحمك العاري
عشرون عاماً ونحن ندق أبوابك الصلدةَ
والمطر يتساقط على ثيابنا وأطفالنا
ووجوهنا المختنقة بالسعال الجارح
تبدو حزينةً كالوداع صفراء كالسل
ورياحُ البراري الموحشة
تنقل نواحنا
إلى الأزقةِ وباعة الخبزِ والجواسيس
ونحن نعدو كالخيولِ الوحشية على صفحاتِ التاريخ
نبكي ونرتجف
وخلف أقدامِنا المعقوفة
تمضي الرياح والسنابل البرتقالية
وافترقنا
وفي عينيك الباردتين
تنوح عاصفةٌ من النجومِ المهرولة
أيتها العشيقةُ المتغضّنة
ذات الجسدِ المغطّى بالسعال والجواهر
أنت لي
هذا الحنين لك يا حقودة!
قبل الرحيلِ بلحظات
وتحت شمس الظهيرة الصفراء
كنت أسند رأسي على ضلْفات النوافذ
وأترك الدمعة
تبرق كالصباح كامرأة عارية
فأنا على علاقةٍ قديمةٍ بالحزن والعبودية
وقرب الغيوم الصامتة البعيدة
كانت تلوح لي مئاتُ الصدورِ العارية القذرة
تندفع في نهرٍ من الشوك
وسحابةٍ من العيون الزرق الحزينة
تحدِّق بي
بالتاريخ الرابض على شفتي
يا نظراتِ الحزنِ الطويلة
يا بقعَ الدم الصغيرة أفيقي
إنني أراك هنا
على البيارق المنكسة
وفي ثنيات الثياب الحريرية
وأنا أسيرُ كالرعدِ الأشقر في الزحام
تحت سمائك الصافية
أمضي باكياً يا وطني
أين السفن المعبّأة بالتبغ والسيوف
والجارية التي فتحت مملكة بعينيها النجلاوين
كامرأتين دافئتين
كليلةٍ طويلةٍ على صدر أنثى أنت يا وطني
إنني هنا شبحٌ غريبٌ مجهولٌ
تحت أظفاري العطرية
يقبع مجدُكَ الطاعن في السن
في عيون الأطفال
تسري دقات قلبك الخائر
لن تلتقي عيوننا بعد الآن
لقد أنشدتكَ ما فيه الكفاية
سأطلُّ عليك كالقرنفلة الحمراءِ البعيدة
كالسحابة التي لا وطنَ لها
وداعاً أيتها الصفحاتُ أيها الليل
أيتها الشبابيك الأرجوانية
انصبوا مشنقتي عالية عند الغروب
عندما يكون قلبي هادئاً كالحمامة
جميلاً كوردة زرقاء على رابيةٍ،
أودُّ أن أموت ملطّخاً
وعيناي مليئتان بالدموع
لترتفع إلى الأعناق ولو مرةً في العمر
فإنني مليءٌ بالحروف، والعناوين الدامية
في طفولتي،
كنت أحلم بجلبابٍ مخطَّطٍ بالذهب
وجوادٍ ينهب في الكروم والتلال الحجرية
أما الآن
وأنا أتسكّع تحت نور المصابيح
أنتقل كالعواهر من شارعٍ إلى شارعٍ
أشتهي جريمةً واسعةً
وسفينة بيضاء، تقلّني بين نهديها المالحين،
إلى بلادٍ بعيدة،
حيث في كل خطوةٍ حانةٌ وشجرةٌ خضراء
وفتاةٌ خُلاسية،
تسهر وحيدةً مع نهدها العطشان