لا يعلم كثيرون خارج أميركا اللاتينية بأن الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس (1899 – 1974) كان أوّل من كتب الأدب الذي صار يطلق عليه اسم «الواقعية السحريّة». لكن، لسبب غامض، فإن «السيد الرئيس»، روايته العظيمة، ظلّت أقل شهرة في العالم من الأعمال التي ألهمتها وأكسبت أصحابها سمعة فائقة وأموالاً وفيرة. عندما شرع أستورياس بكتابة «السيد الرئيس» في كانون الأول (ديسمبر) 1922، لم يكن أيّ من نجوم الواقعية السحريّة المعروفين غابرييل غارسيا ماركيز، أو ماريو فارغاس يوسا أو حتى كارلوس فوينتيس، قد ولدوا بعد. استغرقته كتابتها نحو عقد بينما كان يُقيم في منفاه الاختياري في باريس. وعندما عاد إلى بلاده بعد الكساد الكبير، كان عمله غير قابل للنشر عمليّاً، لأن الديكتاتور الذي تصف الرواية عهده، كان قد أُسقط لمصلحة ديكتاتور جديد، أشد قسوةً وقمعاً من سلفه. هكذا بقيت باكورة أعماله بدون نشر حتى تمت طباعتها في نسخة رديئة مليئة بالأخطاء المطبعيّة في المكسيك عام 1946، ولم تظهر منها طبعة مصححة نهائيّة حتى عام 1952. وتأخر صدورها بالإنكليزية - في ترجمة باهتة - حتى عام 1963، قبل أن يعاد نشرها أخيراً بترجمة محترفة، وتقديم ماريو فارغاس يوسا.
تدور أحداث «السيد الرئيس» في بلد غير محدد يحكمه ديكتاتور لا نعرف اسمه، لكن الإشارات إلى المكان والزمان وشخص الرئيس مدفونة في التفاصيل العابرة: هناك ذكر للـ «الكيتزال»، الطائر الوطني لغواتيمالا، وكذلك معركة فردان (في الحرب العالمية الأولى). أمّا أوصاف «الرئيس الدستوري للجمهورية»، و«المحسن لبلدنا»، و«زعيم الحزب الليبرالي الأعظم»، و«حامي الحريّة لشبابنا» فيمكن مقارنتها بسهولة بما كان يسبغ في الصحف المحليّة على الرئيس مانويل إسترادا كابريرا، الذي هيمن على السلطة في غواتيمالا من عام 1898 إلى عام 1920 بمزيج من الترهيب والاغتيالات والفساد والانتخابات المزورة.


عند قراءة «السيد الرئيس»، يظهر سريعاً سبب تأثيرها الهائل على أجيال من كتّاب أميركا اللاتينية اللاحقين. يمكن بسهولة تمييز أصول ظاهرتين أصبحتا في نظر العالم علامةً على رواية تلك البلاد الممتدة من المكسيك إلى نهاية العالم في جنوب تشيلي خلال القرن العشرين: النوع الأدبيّ المعروف باسم رواية الديكتاتور، وأسلوب الكتابة المسمى الواقعية السحرية.
تجري معظم أحداث «السيد الرئيس» على مدار أسبوع واحد ضمن حبكة بسيطة بشكل مخادع، حيث يقتل متسوّل شبه مجنون عقيداً في الجيش بالخطأ خلال نوبة من الغضب، ويقرر الرئيس إلقاء اللوم على جنرال كان بدأ يشك في ولائه السياسي له. وهذا يقود بدوره إلى الكشف عن سلسلة من المخططات والمكائد المترابطة التي تؤدي بالعديد من كبار المسؤولين الحكوميين إلى السجن، أو التعذيب أو الموت أو فقدان الحظوة، ما يجعل مجمل الطبقة المحيطة بالرئيس مرعوبةً من الآتي، بينما لا يشك المواطنون العاديون بشيء، ويمضون للكدح في حياتهم البائسة الأقرب إلى التسوّل والدعارة. لكن بساطة الأحداث في الرواية، لا تخفي مهارة ثوريّة في السرد الذي يجمع بين حكايات أقدار البلاد الملعونة والقصص الفردية وقصص الحب الفاشلة بينما تتلاشى الحدود مراراً بين الواقع والخيال، والحقيقة والزيف، والماضي والحاضر، والأحلام واليقظة، على نحو يغرق القارئ في قلب التصورات والمخاوف والتأملات المشوشة لشعب حوّله مزيج الاستبداد والطبقيّة السافرة إلى تجمّع من التعساء والأوغاد.
بدا جلياً أن العقد الذي قضاه في فرنسا، بعد توقف قصير في لندن، أثر بشكل جذري في موهبة أستورياس الأدبيّة وعجنها في تراب بلاده. بداية، كرّس أطروحته في كلية الحقوق لـ «المشكل الاجتماعي للهنود (سكان غواتيمالا الأصليّون)»، وهو ما قاده إلى دراسة علم الأعراق (الإثنولوجيا) في جامعة السوربون تحت إشراف البروفيسور جورج رينو، الذي شجّع اهتمامه بثقافة حضارة المايا وأساطيرها. وقد نشر نتاج دراسته (بالفرنسيّة) في «أساطير غواتيمالا» (1931) الذي حقّق فيه بالمرويات الشعبية قبل رحلة كولمبوس المشؤومة، مع تقديم احتفاليّ من الشاعر والفيلسوف الفرنسي بول فاليري. لقد أصبحت هذه الخلفيّة سرّ ما صار يعرف بـ «الواقعيّة السحريّة» التي تحكي أوجاع واقع السكان الأصليين بعقليتهم وترى العالم بعيون أسلافهم ومعتقداتهم العتيقة.
يقول أستورياس إنّه مدين في حرفته الأدبيّة إلى شخص الرئيس (الديكتاتور) كابريرا الذي دفعه إلى التأمل العميق كغواتيماليّ خرج من الصندوق في ما يمكن لفئة قليلة أن تفعله في تشويه أمّة كاملة خلال وقت وجيز. ومن الطريف أنّه بحكم دراسته الحقوق، شغل أستورياس منصب سكرتير المحكمة التي تولت قضية كابريرا بعد إسقاطه في انتفاضة شعبيّة عام 1924، وقيل إنّه التقاه على انفراد في زنزانته في السجن واستمع إليه طويلاً. «السيّد الرئيس» رواية أم تستحق أن يكرّسها العالم سيّدة أولى لأدب الواقعية السحريّة.