منذ باكورة أعمالها الروائية «مريم الحكايا» (2002) التي شرّحت المجتمع اللبناني في عيشه وخبراته ومفاهيمه والسلطة الذكورية والبطركية التي تسيطر على ثقافته وممارساته، فرضت علوية صبح نفسها رقماً صعباً على خارطة الرواية اللبنانية والعربية: صبح المفتونة بالحكايات بارعة في تطعيم السرد المحكم في أعمالها ذاكرة أجيال بأسرها، وتحميل شخصياتها القلق الوجودي والإبداعي والإنساني الذي تفرضه القضايا الإشكالية من الهيمنة الذكورية وقمع المرأة في أنوثتها وأمومتها وعلاقتها بجسدها ومجتمعها وسعيها المرير لنيل أبسط حقوق كرامتها في شرق تصحّ فيه مقولة أدونيس: «الولد في الشرق يولد أباً»: في رواياتها اللاحقة، «دنيا» و«اسمه الغرام» و«أن تعشق الحياة»، تابعت علوية صبح الحفر في البنية التحتية المولّدة للحرب والعنف على كلّ أشكاله، ومواجهة منظومات القهر وتعريتها وفضحها من دون مجاملة أو تجميل: «حينما يكون للأدب علاقة بالحياة، دائماً ما أحاول أن أكون حقيقيّة، ولم أكتب يوماً بداعي تجميل مجتمعاتنا، فالكتابة عندي مواجهة وكشف وأسئلة... لئن أراد الأدب أن يوجّه رسالةً معيّنة، فعليه أن يترك أثراً لدى القارئ حين يتماهى مع الشخصيّات، ونكتشف أمراضنا ومآزقنا وعللنا وأسئلتنا، وبهذا المعنى يحفر الأدب عميقاً في الوعي الفنّي والإنساني». بعد سنوات ثلاث على «أن تعشق الحياة»، تطل علوية صبح على القراء برواية تحمل عنوان «اِفرح يا قلبي» (دار الآداب ـــــ 2023) تضيف فيها لبِنة جديدة إلى عمارتها الروائية الشاهقة، حيث تقدم حمولة دسمة تطرح فيها الإشكاليات الثقافية وديناميكيات الصراع والوئام في المجتمعات ضمن قالب لا يخلو من متعة السرد والشغب على كل ما هو جامد ومتحجّر، لذلك كان هذا الحوار مع «كلمات»

علوية صبح: منطلقي في «مريم الحكايا» كان البيئة الجنوبيّة، لكنّ صنع الله إبراهيم قال بأنّها «تعكسُ حياة وواقع الأمّة العربيّة على امتداد خمسين عاماً» (مروان طحطح ـ أرشيف)


دعينا نستهلّ هذه المقابلة بعنوان الرواية «افرح يا قلبي»، نلاحظُ أنّ الرواية ليست بمجملها عن الفرح، ما السبب الذي دفعك لاختيار هذا العنوان؟
ــــ باستطاعتي القول إنّه، منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها أهجسُ بالرواية وسكنت فكرتها مخيّلتي، لم أجد عنواناً آخر يناسبها، فأمّ كلثوم حاضرة في الرواية كرمزٍ لفنّ الغناء العربي، أو لنقُل الهويّة الشرقيّة الطربيّة للغناء، ومجمل أغانيها التقليديّة مليئة بالشجن والعذابات، فيما أغنيتها الخالدة «افرح يا قلبي» هي الوحيدة المرتبطة بالفرح الذي ينتجُ عن الحب وليس بتعاسته أو عذاباته. إنّ البطل الرئيس في الرواية غسّان، حين أحبّ رفيقة الدراسة «نور» في طفولته، وجد نفسه يغنّي هذه الأغنية. وعندما وقع في حبّ كيرستين في الولايات المتّحدة، وجد نفسه أيضاً يغنّيها. وقبل أن يهاجر للمرّة الأخيرة، سمع ابنته تغنّيها في الحديقة، فأدركَ أنّ شيئاً منها فيه. وبالتالي، فإنّ الأغنية بمثابة نافذة أمل في الرواية، ومن ثمّ كلّنا نعلم أنّ ثمة جدلية بين الظاهر والباطن في النص، وهذا يجوز في الأدب.

ابتعدتِ في هذه الرواية عن البيئة الجنوبيّة، كما في «مريم الحكايا»، ونراك قد اتّجهت نحو الشمال اللبناني. ما السرّ وراء هذه النقلة في الجغرافيا السردية؟
ــــ لم أعبّر في أعمالي عن الجنوب فحسب: في «أن تعشق الحياة» وكذلك في «اسمه الغرام» تناولتُ بيروت، وفي «دنيا» تحديداً أذكرُ أنّني تناولتُ تاريخ منطقة الحمرا وتبدّلاتها. هناك دوماً شخصيّاتٌ متعدّدة الانتماءات الدينيّة، وإن كان منطلقي في «مريم الحكايا» هو البيئة الجنوبيّة، فقد قال عنها صنع الله إبراهيم بأنّها «تعكسُ حياة وواقع الأمّة العربيّة على امتداد خمسين عاماً». بلدة «دار العزّ» الشمالية بالنسبة إليّ هي لبنان ربّما، هي بلدةٌ متخيّلةٌ انطلقت منها لكي أعبّر عن تاريخ لبنان منذ الخمسينيّات حتّى الآن مروراً بظاهرة «حركة التوحيد» في طرابلس في ثمانينيات القرن الماضي، حتّى هذه اللحظة التي يمرّ فيها البلد وما يصاحبها من انهيارٍ كامل، حتّى إنّني طرحتُ مسألة الهويّة منذ تأسيس هذه البلدة، فالأب ناصريّ يحنّ إلى زمن الأحلام العربية، وجاره الأرثوذكسيّ انتسب إلى الحزب الشيوعيّ فقط لأنّه أرثوذكسي، لكنّه لا يزال يحنّ إلى زمن الفرنسيّين. وبالتالي، فإنّ مأزق الهويّة في لبنان هو ما تجسّد في هذه العائلة، وهي بكاملها من الذكور، وقد حاولتُ من خلالها أن أطرح من خلالها هذه المسألة الإشكالية.

ثمة أجيال ثلاثة في الرواية يتوزع هواها السياسي بين الناصرية والشيوعية والمدّ الإسلامي. هل ثمّة رسالةٌ سياسيّة يحملها هذا العمل؟
ـــ لم أفكّر يوماً أن أكتب روايةً تحملُ هدفاً سياسيّاً، أو أن أكتبها كعالمة نفسٍ أو اجتماع، أو حتّى أن أطالب بتحرّر المرأة عبر الشعارات، فأنا ضدّ الإيديولوجيا المباشرة. هاجسي الأساسيّ فنّي وإنساني، لكنّه لا يصادرُ لغة الأبطال، فقد رأيت في عائلتي وفي أكثر العائلات اللبنانيّة مختلف الإيديولوجيّات، بدءاً من الناصريّة، مروراً باليسار والعروبة، ومن ثمّ الحركات الإسلاميّة الأصوليّة... هكذا رأيتُ الرواية ولم أستطع رؤيتها بمنظورٍ آخر. نحنُ دائماً في تحوّلٍ وصراعٍ مستمرّين حول هويّتنا، وهذا مأزقٌ لبنانيّ وليس مأزق بلدة أو عائلة على سبيل الحصر، غير أنّني حاولتُ أن أدخل إلى نمط حياة هذه العائلة، إلى داخل كلّ شخصيّةٍ فيها وأزماتها، إلى حوارها الداخلي مع نفسها وعلاقتها مع الأب والأم، إلى صراعات الإخوة التي وصلت إلى حدّ القتل، إلى المأزق الوطنيّ الكبير الذي يتسبّب دائماً بالهجرة والشتات والمآسي.

هذه المرّة كان البطل رجلاً، لماذا؟
ـــــ صحيحٌ أنّ النساء كنّ بطلات السرد في جميع رواياتي السابقة، وأنّ هاجسي الأساسيّ كان واقع المرأة بوجوهه المختلفة (الأمّ، الزوجة، الحبيبة، المعنَّفة) والمُهملة في الأدب العربيّ الحديث، لكن لم تخلُ روايةٌ من رواياتي من وجود الصوت الذكريّ بقوالب مختلفة أيضاً (الأب، العاشق، الزوج، الأخ) : منذ «مريم الحكايا»، أبرزتُ مأزق الرجل اللبناني والعربي وتصدّعاته، ودور الطائفيّة في العلاقات الاجتماعية ونظرة النساء إلى أجسادهنّ. هذه المرّة، شعرتُ برغبةِ أن يكون الراوي رجلاً، وموسيقيّاً تحديداً، وأعتقد أنّ فهمي للرجل ليس منفصلاً عن فهمي للمرأة وعن العلاقات الإنسانيّة في مجتمعاتنا. مثلاً تجدني تناولت علاقة هذا الذكر بجسده قبل البلوغ ولحظتها، كما أردت التعبير بشكلٍ حقيقيّ عن صراعات الإخوة الذكور في عائلة متصارعة ومتنازعة بفعل الهويّات، وفي أعماق كلّ شخصيّة. استطعتُ أن أعبّر بدقّة عن التفاصيل النفسيّة من خلال المونولوغات التي لم أرغب بأن تتجلى على شكل الريبورتاجات أو التأريخ لحقبةٍ ما. حتّى في رواياتي السابقة، قيل لي إنّك عرّيتِ الرجل، وإنّني حين أنظرُ إليه يشعرُ كأنّني أنظر إلى داخله. كما أنّها المرّة الأولى التي أكتبُ فيها بصيغة الغائب، فجلّ رواياتي السابقة تجد فيها البطلة تتكلّم بصيغة الأنا، وبالتالي فإنّ انتقالي إلى صيغة الغائب هنا نستطيع ردّه إلى كون السارد رجلاً. إنّ فهمي للآخر يتضمنّ اعترافاً بالرجل وقدرة على الكتابة عنه، في حين أنّ العديد من الكتّاب الذكور لا يستطيعون التعبير عن المرأة لأنّهم لا يعرفونها أو يفهمونها خارج منظومات الملكيّة أو كجسدٍ للغزو الجنسي ليس أكثر.



الشخصيّة الرئيسيّة غسّان، موسيقيّ يرى العالم بأذنه، وحين يضع أذنه مثلاً على رمل البحر ليسمع الموسيقى الكونية، نحن أقرب إلى صورة شعريّة. هل لكِ أن تشرحي أكثر حول المسألة؟.
ــــ حينما كتبت «أن تعشق الحياة»، أردتُ أن أعبّر عن شخصيّة البطل الرسّام ورؤيته للعالم من خلال علاقته بالألوان، وكذلك البطلة من خلال علاقتها بالرقص. أمّا في هذه الرواية، فلم يكن من السهل عليّ التعبير عن حساسيّة الموسيقي من خلال أذنيه: علاقته بالطبيعة، بالرمل والشجر، وبالأصوات. لقد ظلّ هذا الهاجس يسكنني لسنواتٍ طويلة، إذ إنني أشتغلُ على ثيمة هذا العمل منذ نحو خمسة عشر عاماً، وصولاً إلى الدرجة التي تقمّصت فيها شخصيّته وبدأت أشعر أثناء مسيري بأنّ أذني تتلقّى الأشياء، فتنصّتُّ إلى صوت الأزهار والطيور، وكلّ عنصر في الطبيعة، واستمعتُ إلى الكثير من الموسيقى وقرأت عن الموسيقيّين، وبات إحساسي الشخصيّ ككاتبةٍ أنّني تقمّصتُ حساسيّة غسّان عبر أذنيه. لذلك، عندما نقرأ في بداية الرواية عن موهبته وهو الذي تعلّم موسيقى العود عن جدّه وكان مرهف الأذنين، أي أنّه جمع ما بين الموهبة والعلم، وجدتُ نفسي أخلقُ علاقةً بين الأذنين ومختلف موجودات الطبيعة وأغرق فيها من خلال إحساسه الذي يدلّه على الأشياء، وبالتالي فإنّ أذنيه ليستا منفصلتين عن إحساسه ككل.

يهاجرُ البطل إلى الغرب بعد مقتل أخيه الشيوعي على يد الأخ الآخر المتطرف دينياً، ونراه يكتشف هذا الغرب من خلال الموسيقى. هل أردت تظهير الموسيقى كمادة للصراع بين الشرق والغرب؟
ــــ الموسيقى عنصرٌ ورمز طرحتُ من خلالهما إشكاليّة الهويّة، لأنّه ليس باستطاعتك أن تفهم شعباً ما إن لم تفهم موسيقاه، فهي تعبّر عن هويّة مجتمعٍ وإيقاع حياته. يهاجرُ غسّان وهو كارهٌ للعود وكلّ الآلات الموسيقيّة الشرقيّة التي تربّى عليها، وكان قد تخصّص في الموسيقى في ألمانيا، وأحبّ بعض الآلات الموسيقيّة الغربيّة لأنّه لم يسمع بها من قبل.
انطلقتُ من بلدة متخيّلة في الشمال كي أعبّر عن تاريخ لبنان منذ الخمسينيّات حتّى الآن مروراً بظاهرة «حركة التوحيد» في طرابلس

بقي غسان يعزف على العود لأنّه الطريق إلى الإحساس كما علّمه جدّه. وعند مقتل أخيه بسبب أهوال الحرب الأهليّة، هاجر إلى نيويورك باحثاً عن هويّةٍ أخرى، وقرّر ألّا يعزف على الآلات الشرقيّة، وإنّما على الآلات الغربيّة فحسب، كردّ فعل على هويّته. غير أنّه بعدما وقع في الغيبوبة، وجد أن أوّل كلمةٍ يكتبها هي «العود»، فاستعدى الآلات الغربيّة ودخل في ردّةٍ أصوليّة، وخاض صراعاً مع نفسه يتجلّى في نهاية الرواية حين تطنّ في أذنيه الموسيقى التي لطالما حلم بها، والمعزوفة من مزيجٍ من الآلات الشرقيّة والغربية، وأسماها «عزيزي الإنسان». هذا التآلف، أو التناغم الإنساني على الأرض لم يتحقّق إلى الآن، فالصراع بين الشرق والغرب لا يزال مفتوحاً. غير أنّ هذه الموسيقى التي طالما حلُم بتأليفها تحقّقت في لحظة خطر وقوع الطائرة.

الأب في الرواية رجلٌ قاسٍ، شرقيّ يضرب زوجته بالحزام، ولا شيء يليّنه سوى الموسيقى، تحديداً عند سماعه أمّ كلثوم. هل تعمّدتِ إظهار الأب الشرقيّ بهذه الصورة؟
ــــ لا لم أتعمّد ذلك، بل هي صورةٌ عموميّة حول شخصيّة الأب المستبدّ الذي كان منتمياً إلى الناصريّة فقط من خلال الأغاني، من خلال الثقافة آنذاك والموسيقى، وشخصيّة عبد الناصر وما إلى ذلك، وهو ينتمي إلى هذا الجيل، لكنّه مستبدٌّ داخل البيت، يضرب زوجته خوفاً من أن تخونه، في الوقت الذي يأتي فيه برفقة عشيقته إلى البيت. هذا الأب، أو «السي السيّد» يختلفُ عن ذاك الذي نعثر عليه نجيب محفوظ في تناقض سلوكه داخل البيت وخارجه. الأب هنا ينتهك حرمة البيت، ناهيك بعبثيته، تحديداً في المشهد الذي ذهب فيه ليخطب لابنه عشيقته هو، وهو ما رفضه أهل البلدة لأنّه لا يجوز في الإسلام أن يتزوّج الابن من عشيقة الأب. كما أنّه أطلق النار على الحلواني سمير ظنّاً منه بأنّ زوجته تخونه معه.

كيف صوّرت الأنوثة المنقوصة للأم المعنّفة في الرواية؟
ــــ لم تخن الأم زوجها البتّة، بل كانت تدخل بيت الجار من أجل الحلوى، رغم إيمانها التام بأنّه لا يجوز لها دخول بيت أرملٍ يسكنُ وحده: تفعل ذلك فقط لتتذكّر أنّها أنثى، ومن ثمّ تخرج من دون أن ينتبه أحدٌ لذلك. هذه هي الأنوثة التي محاها زوجها منها ومن ثمّ محتها الأمومة، فهي تصف أمومتها حين يطلبُ منها أبناؤها الذكور الملعقة والشوكة، فتتحدّث عن شعورها بأنّها شوكة، غسّالة، أي أنّها تشيّأت ولم تشعر يوماً بأنّها أنثى. هنا تكمن أهميّة إعلائي لصوت هذه المرأة المعنّفة التي، في أدب الذكور، لا نعرف كيف تشعر وتحسّ، بل توصف بأنّها ضعيفة ونقطة على السطر. حين تتخيّل أن زوجها يخونها مع عشيقته تبوح لجارتها برغبتها في قتله بالسكين، لأنّ السكّين تتركُ أثراً على الجلد. بالتالي، فإنّ ما عبّرتُ عنه هو داخليّة الأم المقموعة والمعنّفة، وأعليتُ صوتها كما فعلتُ في مجمل رواياتي.

علاقات بطل الرواية مع النساء إشكالية، ولا سيما مع زوجته الأميركية. هل هو مظهر آخر من صراع الهويات بين الشرق والغرب يتبدّى من خلال الفحولة الجنسية؟
ــــ غسّان، شأنه شأن العديد من الذكور، نهل من ثقافة الفصل بين الحبّ الروحانيّ والحب الجسدي، وهي باتت ثقافةً اجتماعيّة في مجتمعاتنا الذكوريّة، وقد حاولتُ التعبير عن كيفيّة اكتشافه لأجساد النساء خلال صباه وتلصّصه على أجسادهن، وكذلك تصوّراته الدائرة حول كلّ واحدةٍ منهن. كانت صديقته في المدرسة حبّه «الروحانيّ»، فرغم سفره، ورغم عشقه للأميركية كيرستين التي تكبره بخمسة عشر عاماً، بقيت الصورة المتخيّلة لنور تراوده ولم يعمل على تغييرها، كما أنّه تعلّم معنى جسد المرأة من خلال حبيبته السابقة في ألمانيا. لم يحدث أن أقام غسّان علاقةً مع امرأةٍ عربيّة، وهذا ما بقي غامضاً ومثيراً لأسئلته كأنّه لغزٌ يريد اكتشافه. لذلك حينما تحدّث كثيرون من الكتّاب العرب حول المرأة الغربيّة، حاولوا إمّا إخضاعها في الفراش كردّة فعلٍ على الاستعمار وعقدة التفوّق الثقافي، وإمّا استحضار جسدها ومفاتنها، من هنا تعمّدت جعل كيرستين أكبر منه سنّاً ولم أدخل في تفاصيل حول شكلها وجسدها، وركّزت على إنسانيتها في تمثيلها للآخَر. إنّ مأزق علاقته بكيرستين يتجسّد في إخفائه عنها زواجه من امرأة لبنانية، كما أنّ كريستين تمثّل الهويّة الأميركيّة، ولكن إيماناً منّي بالتكامل الإنساني في العالم، جعلتها تهوى الشرق فيما هو هاربٌ من الشرق، وعاشقةً للتصوّف ومدرّسةً له في إحدى الجامعات الأميركيّة. حين عانى غسّان الضعف الجنسي مع كيرستين في الفراش للمرة الأولى، حاول أن يشعر بأنّه بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» مصطفى سعيد، لكنّه بعد ذلك كره نفسه وقال إنّ علاقته بها علاقة إنسانيّة، ومع ذلك بقي يشعرُ بالضعف أمامها لأنّها تمثّل الثقافة المنتصرة بالنسبة إليه، وكثيرون يشعرون بالضعف أمام الثقافة المنتصرة.

هل يبدو غسان أكثر انسجاماً مع نفسه في علاقته مع المرأة العربية؟ أم أن العلاقة إشكالية هي الأخرى؟
ــــ لماذا يجب على جسد المرأة، في حال كانت شرقيّة أو غربية، أن يقع الظلم عليه دائماً من الرجل؟ ما الذي فعله داعش سوى انتهاك أجساد النساء؟ هذا المفهوم القائم على انتهاك جسد المرأة، شرقيّةً كانت أم غربيّة، أنبذه على الدوام. غير أنّ هاجس الفحولة الجنسيّة التي ظنّ البطل أنّها تخلّص منها باكراً وكرهها في أبيه، عاد وارتكبها مع رولا، زوجته اللبنانيّة، فقد قهرها وشعر بالفحولة معها حين عاملته كأنّه هارون الرشيد وتلذّذ بذلك، غير أنّ كلّ هذا لم يأسره. صحيحٌ أنّه خاض هذه التجربة لكنّه بقي يعيش مع كيرستين لأنّه يحبّها، وزواجه من رولا كان لحظة ضعف أمام ذكرياته وأرضه وبلده وشبابها، لحظة ضعفٍ بحثاً عن تاريخه وذاكرته. ثمّ عبر الصراع بين حبّه لكيرستين وحبّه لرولا، حاولت أن أعبّر عن اختلاف هذه العلاقة تبعاً لثقافة المجتمع والدين والقوانين وغيرها. ليس هناك علاقة بين امرأةٍ ورجلٍ لا تتحكّم فيها المفاهيم الاجتماعيّة، على اختلاف الخصوصيّات بين المجتمعات. كانت رولا على درايةٍ بزواجه من كيرستين، فيما الأخيرة تجهل زواجه برولا، ومع ذلك قبلت به: في لحظةٍ من اللحظات، يتساءل لماذا لم تقل له إنّه قد كذب عليها بشأن رولا، ولماذا لم تنتزع حرّيتها منه، وهنا نجده يحمّل المرأة العربيّة بعض المسؤوليّة حيال ما يفرض عليها من القبول والانصياع.

ثمّة شخصيّةٌ ملتبسةٌ في جندريّتها وهي شخصيّة سليم شقيق غسّان، ما الذي أردت قوله عبر هذا الالتباس؟
ـــ من منطلق طرحي لمشكلة الهويّة عموماً، وجدتُ نفسي منقادةً بشكلٍ لا إراديّ نحو الهويّة الجندريّة، بحيث إنّ الرواية طاولت أيضاً مأزق هويّة الجسد، إذ لم يكن سليم يعرف طوال الوقت هويته الجندرية، ما سبّب له هاجساً مستمراً، وبالتالي هذا جزء من إشكاليّة الهويّة التي طرحتها. غير أنّ سليم، ولأنه بات مرفوضاً اجتماعياً حين أدرك مثليّته، ردّ على هذا الرفض برفضٍ مماثل.

في الرواية تصويرٌ للفسيفساء المُضعضِعة للبيئة اللبنانيّة، كما في قصة الحب التي جمعت الجدّة بالجار المسيحي من دون أن تتمكّن من الزواج منه، وكذلك رفض عفيف لجيرانه المسيحيّين. هل السياسة والديانة مجالان لا يمكن تجنبهما في الرواية اللبنانية خاصة؟
ـــ سبق أن أكدتُ أنّه لم يسبق لي أن قمت بتوجيه رسالةٍ مباشرة بحكم اشتغالي في حقل الأدب والفن، حيث تتزاوج قضايا كثيرة. حين تكون للأدب علاقة بالحياة، دائماً ما أحاول أن أكون حقيقيّة، ولم أكتب يوماً بداعي تجميل مجتمعاتنا، فالكتابة عندي مواجهة وكشف وأسئلة، ولا شك في أنّ كثيرين في مجتمعنا تتحكّم بهم النزعات العنصريّة والمفاهيم المغلوطة حول الدين، بحيث إنّنا نتّبع الأساطير أكثر ممّا نتّبع الأديان. لذلك، لم تكن هذه المسألة مطروحةً قبل الحرب أو مكشوفة، بحيث كان المجتمع مستقرّاً ولم نكن ننظرُ إلى علاقاتنا نظرةً طائفيّة. لكن خلال الحرب، ومع تفجّر الأصوليّات، تجلّت هذه الهويّات الضيّقة المريضة، وأنا أجاهرُ بما يجبُ أن يُحكى. لئن أراد الأدب أن يوجّه رسالةً معيّنة، فعليه أن يترك أثراً لدى القارئ حين يتماهى بالشخصيّات، ونكتشف أمراضنا ومآزقنا وعللنا وأسئلتنا، وبهذا المعنى يحفر الأدب عميقاً في الوعي الفنّي والإنساني.