في سياق ما أورده لنا بلوتارخ عن أسطورة إيزيس وأوزيريس، ذكر لنا الاسم فلستينوس Palestinus كابن لملك بيبلوس ملكارتوس (ملقارت). بعدما خدع سيث (تيفون عند بلوتارخ) أوزيريس وأقفل عليه في صندوق، رماه في البحر الذي أوصله إلى بيبلوس (جبيل) اللبنانية. وهناك: «احتبسته [الصندوق] بلطف أغصان شجيرة الطرفاء التي استحالت في برهة وجيزة إلى شجرة جميلة ضخمة، التفّت حول الصندوق وأحاقت به من كل جهة، بحيث لم يعد في الإمكان أن يرى. وعلمت إيزيس أن ملك ذلك الإقليم أذهله الحجم اللامألوف لتلك الشجرة فقطعها وجعل ذلك الجزء من جذعها الذي خبّأ الصندوق عموداً يدعم سقف بيته».
وحين علمت إيزيس بأن أوزيريس موجود في داخل الشجرة، ذهبت إلى بيبلوس على الفور. وهناك قعدت عند نافورة، ورفضت أن تكلم أحداً باستثناء نساء الملكة «عشتار» زوجة ملكارتوس (ملقارت) ملك بيبلوس. وقد أعجبت الملكة بإيزيس وجعلتها مرضعة لأحد أبنائها. وهذا مماثل لقصة موسى الطفل الذي تبنّته زوجة فرعون مصر، بشكل ما.

يبدو أنه من اسم هذا الإله الطفل أخذت فلسطين اسمها

وقد «غذّت إيزيس الطفل بأن أرضعته من أصبعها بدلاً من ثديها. وكذلك راحت في كل ليلة تعرضه على النار لكي تستهلك جزأه الفاني، بينما هي تحيل نفسها إلى سنونو وترفرف حول العمود وتندب قدرها المنكود. واستمرت على هذا النحو طوال وقت ما، إلى أن أبصرتها الملكة ذات يوم وهي تضع الطفل في اللهب، فصرخت الملكة وبذلك حرمت الطفل من الخلود الذي لولا صرختها لحصل عليه. وعند ذلك، كشفت الإلهة عن هويتها وطلبت من الملكة أن تمنحها العمود الذي يعدم السقف، فأخذته وفتحت جوفه بسهولة. وبعدما أخذت منه ما تريد [أي الصندوق]، لفّت بقية الجذع بقماش جميل، وصبّت عليه الزيت المعطّر ودفعت به إلى أيدي الملك والملكة (وهو ما انفكّ حتى اليوم قطعة خشبية محفوظة في معبد إيزيس، يعبدها أهل بيبلوس). وبعد ذلك رمت بنفسها على الصندوق وراحت في الوقت نفسه تنوح نواحاً عالياً ومرعباً. فسمعها أصغر أبناء الملك فارتعب ومات. أما الابن الأكبر فأخذته معها وأبحرت باتجاه مصر».
وحين «وصلت إلى خلاء مقفر حيث تخيّلت نفسها وحيدة، وعلى الفور فتحت الصندوق، وألقت بوجهها على زوجها وعانقت جثمانه. وبكت بمرارة. ولكنها حينما شاهدت الطفل الصغير يتسلل وراءها خلسة، ووجدت فرصة سانحة لحزنها، استدارت إلى الخلف فجأة، ورمته غاضبة بنظرة كالحة، فمات على الفور من شدة الرعب. والحقيقة أن بعض الناس يقولون إنه لم يمت على هذا النحو، بل كما لوحظ أعلاه، سقط في البحر، ونال في ما بعد الشرف الأعظم من لدن الربّة، ولهذا فإن المانيروس Maneros، وهو من يتوسل إليه المصريون كثيراً في ولائمهم، ليس إلا هذا الطفل».
ويضيف بلوتارخ عن المانيروس: «وثمة من ينقض هذه الحكاية مرة ثانية، إذ يقال بأن الاسم الحقيقي للغلام قد كان بلستينوس Palestinus أو بالسيوس Palusius، وأن الربّة بنَت مدينة بهذا الاسم تخليداً لذكراه» (السير ولس بدج، الديانة الفرعونية: أفكار المصريين القدماء عن الحياة الأخرى، ترجمة وتقديم يوسف سامي اليوسف، دار أزمنة، الطبعة الثانية، 1999، ص 86-87-89).
أما المانيروس فيختلف عليه. فهناك من يقول إنه طريقة للتحية بين المصريين، لكنه ترنيمة دينية رثائية عند بعضهم. وحسب هيرودتس، فهو ابن مينوس (مينا) أو ملك مصري مفترض. وقد مات هذا الابن مبكراً، فكتبت له المراثي. وعلى أي حال، فقصة إيزيس مع أبناء الملك ملقارت معقّدة جداً. لكن هناك ما يوحي بشكل من أشكال التضحية بالأطفال. لكن هذا ليس موضوعنا. موضوعنا هو الطفل فلستينوس.
وهذا الاسم على علاقة لفظية واضحة جداً مع فلسطينيي التوراة (الفلستينيين) أي مع الفلست Pelest حسب صيغة المصادر المصرية. وأول ذكر للفلست، أو الفلسط، في النصوص المصرية أتانا من القرن 13 قبل الميلاد حيث ورد تعبير «أرض الفلسط»، ثم من نصوص «مدينة هابو» التي تتحدث عن مواجهة رمسيس الثالث لما يسميه الباحثون «شعوب البحر» في حدود عام 1191 قبل الميلاد. فمن بين القبائل أو المجموعات التي هزمها رمسيس كانت مجموعة الفلسط.
لكنّ الغريب أنّ أحداً من الباحثين الغربيين لم يحاول أن يربط بين فلستينوس بلوتارخ والفلسط، أي الفلسطينيين القدماء في جنوب فلسطين. الوحيد الذي وجدت أنه يشير إلى هذا الاحتمال هو الكاتب الفلسطيني المرحوم يوسف اليوسف مترجم كتاب «ولس بدج» الذي اقتبسنا منه قصة إيزيس أعلاه. فهو يقول في هامش صفحة 88: «يحتمل أن يكون هذا الاسم مجرد تحريف لاسم فالوس إله الشبق [عند اليونان]. ويحتمل أن تكون قبيلة البلستو التي أعطت فلسطين اسمها من عبدة الفالوس» (يوسف سامي اليوسف).
وإذا تناسينا حكاية الفالوس إله الشبق، فإن اليوسف ربط ربطاً معقولاً وممكناً بين الفلست وفلستينوس. أما الباحثون الغربيون، والإسرائيليون على وجه الخصوص، فلم يحاول أحدهم أن يربط بين الاسمين. وأنا أجد هذا غريباً جداً. لكن يمكن تفسير ذلك بالهوس، المغرض جداً، للبحث عن أصل إغريقي للفلست القدماء. فثمة إصرار عنيد، ولا يصدق، على نفي الفلست إلى بحر إيجه. وكأنّ هذا يأتي لكي يظهر الفلست كأغراب قادمين مثل الإسرائيليين القدماء الذين جاؤوا من مصر حسب رواية التوراة. وإلا كيف أمكن للبحوث التي حاولت العثور على أي نبذة عن الفلسط أن تتجاهل من ورد عند بلوتارخ في قصة إيزيس وأوزيريس؟ نعم، كيف أمكن إفلات الشبه اللفظي الواضح بين فلستينوس والفلست؟
على أي حال، من الواضح أن ملقارت وعشتار بيبلوس إلهان وليسا ملكين سياسيين، وأنهما بشكل ما يتماهيان مع إيزيس وأوزيريس. يؤيد ذلك أن ملقارت جعل من جذع الشجرة التي احتوت جثمان أوزيريس عمود قصره. بناءً عليه، ففلستينوس ابن ملقارت طفل إلهي في الواقع. وليس من الغريب أن يكون هذا الطفل- الإله معبوداً عند شعب من شعوب فلسطين، كما عبد حورس أو أنوبيس في مصر. فقد كانت الشعوب والإثنيات في العصر الحديدي، تبلور هوياتها حول إله معين. فالعمونيون شرق النهر تبلورت هويتهم حول الإله عمون، والإسرائيليون القدماء حول الإله إسرائيل، الذي يرفض الباحثون الغربيون الاعتراف بوجوده، واليهود حول الإله يهودا، وهكذا. عليه، فربما كان علينا أن نفترض وجود إله- طفل يدعى فلستينوس، وأن الشعب الذي كان يعبده في جنوب فلسطين كان يدعى باسمه، أي الفلست حسب النصوص المصرية، والفلستينيين حسب التوراة، ويبدو أنه من اسم هذا الإله الطفل أخذت فلسطين اسمها.
وبناءً على قصة بلوتارخ، فإن فلستينوس إله- طفل قتيل ذبيح. وربطه بالمانيروس المصري دليل على ذلك. فالمانيروس طفل قتيل يبكيه المصريون، أو هو ترنيمة بكاء لطفل قتيل. وهذا ما يضع الأساس لمشابهة فلستينوس مع إسحق الذبيح، ومع إسماعيل الذبيح، ومع عبدالله المكي الذبيح، ومع ابن الملك ميشع الذبيح، ومع كل الذبحاء في المنطقة.

* شاعر وباحث فلسطيني