نشأت الكتابة في المركزين الكتابيّين الأساسيين في المنطقة: مصر وبابل. مصر بكتابتها الهيروغليفية التصويرية المعقّدة، وبابل بكتابتها المسمارية المقطعية، التي لا تقل كثيراً عنها في تعقيدها. لكن تطور الكتابة إلى الأبجدية، لم يحدث في هذين المركزين، بل خارجهما. وهذا مجمع عليه، وإن كان هناك من يبحث عن تأثير مصري ما على هذا الاختراع ومن يبحث عن تأثير بابلي. ويمكن لي أن أستند في تفسير ذلك إلى نظرية سمير أمين بشأن أنماط الإنتاج وأطبقها على الكتابة الأبجدية. فعنده تكسر الأنماط الإنتاجية السائدة من نقاط ضعفها، أي من أطرافها لا من مركزها. فالمركز يكون في العادة محافظاً بشدة ومتماسكاً، بحيث يكون من غير الممكن كسره. وهذا ما حصل مع ظهور الرأسمالية. فقد ظهرت في أوروبا، لا في آسيا. أي لم تنشأ في المراكز الحضارية كالصين والعالم الإسلامي، بل في أطرافها، وعلى حدودها، أي أوروبا. فنمط الإنتاج الإقطاعي الأوروبي كان نمطاً فرعياً ثانوياً، إذا ما قورن بالمراكز التي نتحدث عنها، أي مراكز نمط الإنتاج الآسيوي كما سماها ماركس. مثل هذا حصل مع الكتابة الأبجدية، فهي لم تنهض في مصر وبابل، وفي الصين، بل في النقطة الحدودية الطرفية بينهما. أي أنه جرى كسر النماذج الكتابية المهيبة من خارج المركزين. وتشير الدلائل كلها إلى أن هذه النقطة تقع بين جنوب فلسطين، بما يشمل سيناء، وشمال الجزيرة العربية. مع أن هناك من اعتقد أن العملية تمت في سواحل فينيقيا. لهذه فقد عثرنا على أول نقوش لهذه الأبجدية في سيناء، وفي موقع سرابيط الخادم على وجه الخصوص، وبتاريخ يقدر بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر بعد الميلاد.
واعتقادي أنه لم يكن بإمكان فينيقيا، ولا كنعان كلها، أي الشام جميعه، أن تكون المكان الذي تنهض فيه الأبجدية. فالشام كان دوماً مضغوطاً بين مصر وبابل والحثيّين. ولم يكن بإمكان طراز جديد ومستقل من الكتابة أن ينشأ ويعيش فيه. فالمراكز لن تدعه يفعل ذلك.
وأعطيك مثالاً، ففي القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كان على مدن بلاد الشام في فلسطين وسوريا أن تتعامل مع الدولة المصرية، وأن تراسل فرعونها أخناتون. وقد عثرنا على المئات من هذه الرسائل في أرشيف تل العمارنة، عاصمة أخناتون.

الرسالة EA 252م من لبآيو حاكم نابلس إلى الفرعون أخناتون


ولم تكتب المدن الشامية رسائلها تلك بالكتابة الأبجدية التي كانت موجودة منذ قرون عدة. ذلك أن الدولة المصرية لم تكن لتعترف بهذه الكتابة «البربرية». فالكتابة تتم فقط بالأنماط «المحترمة المتحضّرة». فاضطرت هذه المدن إلى استخدام الأكادية العراقية في التواصل مع مصر. ذلك أن الكتابة المصرية بتعقيداتها المخيفة صالحة للتواصل بالطبع. فتدريب الكتّاب عليها يحتاج إلى وقت طويل جداً، وإلى تكاليف باهظة لا تحتملها مدن بلاد الشام. فوق ذلك، فإن طبقة الكتاب المصرية المرتبطة بالكهانة لم تكن تقبل أن تتحول الكتابة إلى أمر شائع يتقنه الجميع. فهذا يهددها ويهدد مصالحها. لذا لم تكتب المدن رسائلها بالأبجدية. لذا أرغم كنعانيو بلاد الشام على التواصل مع الحكام المصريين بالأكادية المسمارية. كانت نظاماً كتابياً أخف وطأة من الهيروغليفية، لكنها لم تكن «بربرية».
وكان هذا يعني أن على كل من يريد أن يكون كاتباً في هذه المنطقة أن يتعلم الكتابة الأكادية. لم تكن تفيده الكتابة الأبجدية التي كانت قد نشأت قبل قرون في شيء حتى لو تعلمها. لذا ظل وجود الأبجدية هامشياً، وغير رسمي. ولم تصبح الأبجدية وسيلة بلاد الشام الكتابية إلا في الفترة بين القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد. أي بعدما ضعف النفوذ المصري، ولم يعد هناك ما يمنع تطور هذه الكتابة. ولعل رحلة «ون آمون» أحد كهنة الكرنك الذي مرّ فيها من السواحل الفلسطينية إلى جبيل، تبيّن إلى حد كانت مكانة مصر قد تهاوت في ذلك الوقت. ولعل حملة شيشانق على فلسطين وعلى أجزاء من شمال الجزيرة العربية في ما يبدو كانت محاولة لترميم الوضع ليس إلا. على كل حال، ففي ذلك كان قد مضى على ظهور الأبجدية ما يقرب من ألف عام. وهذا يعني أنها منعت من الانتصار قرابة ألف عام.

المقطعية السامية
لكن يجب القول هنا إنّ الكتابة الأبجدية التي نتحدث عنها نهضت على أساس كتابة سامية مقطعية وجدت قبلها. هذه الكتابة تمثلها نقوش «جبيل- بيبلوس» التي عثر دوناد الفرنسي عليها في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين. وهي نقوش لم تحل رموزها نهائياً بعد.



لكن فرضيتي أنها تنتمي إلى عالم الجزيرة العربية، وتمثل لغة عربية قديمة. وقد قدمت براهين على ذلك من قبل. هذه الكتابة كانت تصويرية مثل الهيروغليفية، لكنها مقطعية مثل الأكادية. أي أنها كانت في منطقة وسطى، آخذة ما هو مناسب لها من الطرفين. من هذه المقطعية انبثقت الأبجدية. فقد جرى في لحظة محددة إلغاء المقطع من أجل تسهيل الكتابة. فالكتابة المقطعية تقوم على كتابة الصوت مع حركته. يعني: إذا أردت أن تضع رمزاً لحرف العين، فسوف تحتاج إلى أربع علامات لا إلى علامة واحدة: علامة للعين مع الفتحة، وثانية للعين مع الكسرة، وثالثة للعين مع الضمة، ورابعة للعين مع السكون. وهذا ما يجعل الرموز كثيرة يحتاج الواحد إلى فترة زمنية طويلة لتعلمها. وفي اللحظة التي نتحدث عنها، قرر أحدهم إلغاء الحركات، أي كتابة الصامت فقط. بذا صار للعين رمز واحد، علامة واحدة، وليس أربع علامات. وهو ما أدى إلى تسهيل الكتابة ودمقرطتها، وانتهى عملياً لاحقاً إلى موت الكتابة المسمارية المقطعية، هذا إذا تجاهلنا أن الكتابة المصرية كانت معزولة في مصر وحدها.
وقد حصلت العملية التي نتحدث عنها في الأطراف، أي بين الجزيرة العربية وجنوب فلسطين، أي عملياً على أيدي عرب الجزيرة العربية وكنعانيي جنوب فلسطين أساساً.

* شاعر وباحث فلسطيني