1- كيْلالورْدة تمْرق بيْن الأنّات مزقْزقة
والغصْن المنكوب طرحْ

الورْدة تسْتلّ تمام توهّجها
هلْ طفح الكيْل؟
أخيراً
أحْتضن الحارات بشوق وفرحْ

مارك واليجر ـــ «ظلّ عابر سبيل» (فيديو رقمي ــ 2011)


أجراس تتألّق في جيد المشْرق
وأنا أجتاز أسارير السّنْطة
ولطالعة من نهر تتبخْتر في الترتيلات
أعدّ شراكاً من قوْس قزحْ

هلْ طفح الكيْل؟
الكيْل طفحْ
والجمْر النّائم في الأوصْال جمحْ.

2- ترحال
رمْل
وهجير
وعيون متكالبة
ومضارب تعوي
تلْك القارّة تشتعل بخطوي.
تل يتطاول
تل يذوي
دهستْ سهْوي
سيدة الغزلان
وغابتْ في الصحراء
ظلال تلفتها تحْفر في أغواري
حتّى تتفجّر كلّ ينابيع الهذيان
وتطفو جدراني شوقاً
أنْتهك الترحال بلا ما يحتضن القامة
أو ما يرْوي.
تل يتطاول
تل يذوي.
ما من جهة تنجو من عدْوي.

3- الظل بمفرده
يزْهو بظلّ غامض
وفراشة تمشي معه.
يعدو ويسقط
لا يكفّ عن السقوط ولا القيام
يلملم الورق القديم من الهواء
يفرّ خلْف أرانب تنْسلّ
من أسطورة مفكوكة
يعدو ويسقط،
كيف يبحث عن ملاذ
في ضلوع الزوبعةْ؟

ماذا رأى قبْل انفجار جنونه
ماذا رأى؟
كيما يبعثر في الرمال صباحه
ويغازل الألغاز
يرفع مثل مصباح ربابته
يلوّح للبعيد
بلا اكتراث بالصخور الجائعةْ.

عمّا قليل يستدير الظلّ ثانية
ويرجع وحده للأهْل
يبكي وهو يحكي عن طقوس الفاجعةْ.

جوْف المتاهة لا نهائيّ
وتلك خطاه تخبط في العماء
وكلّما فقد النجوم
وساخت الأعضاء في ظمأ
يمرّر في قميص الذكريات أصابعهْ.

أيّ المسالك غرّرتْ بجنونه
كيما يجاهر بالعداء لكلّ شيء
يكتفي من هذه الدنيا
بظلّ زاخر بزخارف
وفراشة سوداء
تحكي عن شموس في سراديب
وسر غاطس في الوحل
عن فخّ القشور
وحمْحمات القارعةْ
أيّ المهالك غرّرتْ بجروحه
جذبتْ دماه
فراح يحجل في الطلاسم
يقتفي ما لا نراه
وأيّ شدْو ضيّعهْ؟

4- حجْر العزلة
أختصر اللحظة في موّال أسود
وأبلّل بالعزلة ريقي.

الدرب هنا
بيْن الجنبيْن
هنا سرّ السّرّ
لماذا أنظر مثل المعتوه هناك
وأنتظر صباحاً لن يقبل؟
ما في الخارج غيْر الموت
اليوم عرفت طريقي.

أعبث في أزرار الذات
وأفتح للرعد مغاليقي.

أصطاد من المرآة بروقاً
وأحاول أنْ أبصر نفْسي
في كلّ الأشياء
أحاول أنْ أجْمع أشلاء القلب
من الجدران
أحاول أنْ أنزع من أفواه الموت أباريقي.

أجلس في حجْر العزْلة
وأحرّر ما في جسدي
من زهْر
وفراشات
أتعلّم كيف أشيخ
بلا أسف
أو ظل لمرارات
كيف أمدّ يدي
إلى آخر نبْع في الروح
وكيف أربّي أغنيتي وحريقي.
اليوم عرفت طريقي.

5- لظلّي أطوار غريبة
ظلّي أمامي
عتمة صغيرة
لا تحيا إلا في النورْ
برهان وجودي
ومعناي الوحيدْ
أترك كلّ طريق
لا أرى ظلي يمتدّ فيه.

أضع أمام المصباح قبضتي
أترك ظلّها يكبر بالقدْر الذي يكفي
لتحطيم هؤلاء الذين يفسدون حياتي
وعندما أنجح في البكاء
أكمل سهرتي
صانعاً بظلال يدَيّ فوْق الحائط
حيوانات وزخارف.

لا أطفئ المصباح
وأقطع نوْمي عدة مرات
كي أتأكّد من أنّ ظلي تحْتي.
الموتى وحدهم
ينامون عرايا
وظلالهم ليست تحْت ضلوعهم.
■ ■ ■
الطريق إلى موعدها
لم تكنْ مستقيمة
وكان ظلّي يسبقني بشارعيْن أو ثلاثة.
وضعت أصابعي على أصابعها
وصرخت:
ظلّ يديْنا ليس متطابقاً
حضنتها على الفوْر
لأتيح لظلّها فرصة أخيرة
كي يتطابق مع ظلّي.

في طريق العودة
كان الشارع خالياً
إلا من ظلّيْن حزينيْن
يميل كلّ منْهما إلى جهة.
■ ■ ■
مرّة أتْلفْت منْجلاً
لفرْط إصراري
على قطْف قطعة من ظلّ شجرة
أتْلفْت منْجلاً
كي أقتنع إلى الأبد
بأن الظلال لا تقطع أو تتألم
كيف أنظر الآن
إلى الثقوب التي يمتلئ بها ظلّي؟
كيف أنظر لصراخه وقفْزه
كلما اصطدم قلبه
بحصاة أو علبة فارغة؟
■ ■ ■
لظلّي أطوار غريبة
خطواته
لا تنسجم أحياناً مع خطواتي
لا أفهم أبداً
لماذا يمدّ رقبته
مثل ماسورة
ويكوّر باقي جسده
مثل دبشك؟
لو طاوعته
ودسْت على الزناد.
■ ■ ■
مرّة سألت جدّتي
أيْن ظلّ النهر؟
حدّقتْ في الزراعات ولم تجبْني
ماتتْ جدّتي لكنها
تزورني في النّعاس.
أسْحبها من يدها
انْظري يا جدّتي
الأولاد يسْبحون في ظلّي
البنات يغسلْن فيه الملابس والمواعين
أمّا الرّجال
فيرْسلونه في المواسير
إلى الصحراء والأدوار العالية.
■ ■ ■
خمسة وثلاثون عاماً
تكفي بالكاد
لكي ينتبه المرء إلى ظلّه
لست نادماً على أعوام
عبرْتها خلْف ظلال الآخرين
لقدْ غفرت لنفسي كلّ شيء
إلا تبوّلي في الخلاء
بلا اكتراث
بأنّ ما أبول عليه
ليْس سوى ظلّي.

6- ظلّ على الباب المفتوح
لا أنزل الأرض مرتيْن
مشّاء ولا أجالس الوصوليين
أمشي وأنا واقف
وأمشي وأنا نائم
وأمشي وأنا أمشي
كلّ لحظة مرور ووداع
كلّ خطوة
رمية نرْد في شبْر جديد.
مشّاء ينحني كلّ فترة ويلتقط شيئاً
يحمل مقطفاً ويفتّش في العروش.
كمنْ يجمع الطّماطم
ألمّ أسماء النّقْصان التي نضجتْ
وأسري في الحياة
كما تسري شيخوخة في طفل
لا يكفّ أبداً عن مهاجمة البنات
وهنّ يغسلْن المواعين في التّرعة
يحكي عن بقرة نائمة في الماء
تبكي حوْلها حزمة من زرْع لا يعرفه
يخطف طرْحة ويجري
وكلّما أمسكتْ به بنت وضربته
راح يضحك
حتّى يغالبه الدّمع فجأة ويبكي.
أنا الولد الذي يمشي إلى أمّه باكياً فتضْحك.
بيْتي واسع
مثل طرْقة بيْن عربتيْ قطار
مسافر لم يحجزْ مقعداً
ظهْري مسنود على الباب المفتوح
أجتاز حقولاً وبيوتاً ومحطات.
ألمّ ظلاً يستند على عتبة الجامع
يخلع مركوبه ويصفّق بالفرْدتيْن
يحملهما تحْت إبطه ويخطو
هكذا أدْخل الليل والنّهار
أخلع قدمي وأصفّق بهما
أحفظ ما يتساقط منْهما في جرّة معتّقة
وأدفنها بلا علامة.
تجري أعمدة التلغراف
بيْنما أغنّي مع أقرباء
يتقرفصون على أسلاكها
أضحك مثل فؤوس ترقص في الأرض
وأبكي مثل حبال تجرّ الأبقار.
أمرّ في ألْف ذاكرة كلّ لحظة
وقوفي مشي، ومشْيتي وقوف.
كثيراً ما مشيت أياماً وأسابيع
حوْل زهرة واحدة
ألمّ أسماءها
وهي تتجدّد كلّ يوم
وكلّما انصرفت أنّبني ضميري.
ينقصني تأهيل للسّيْر بكفاءة حوْل زهرة
تنْقصني أجيال تكمل الشّهيق الذي بدأته
مشّاء لا يحبّ الوصول
لا مقعد لي في الحياة
وظهْري مسنود على بابها المفتوح.

(*) مقتطفات من مختارات للشاعر المصري صدرت حديثاً عن «منشورات بتانة»، القاهرة.