تحدثنا في مادة سابقة عن طائفة الكسائيين Elkasaites، الذين كانت فرقة منهم تعيش في شمال البحر الميت في القرون الأولى الميلادية، وعن زعيمهم الذي يُدعى الكسي، الكسيا. يقول أفيفانيوس عن فرع هذه الطائفة في فلسطين: «الشمسيون Sampsaeans يسمون أيضاً الكسائيين Elkasaites ما زالوا يعيشون حتى هذا اليوم في العربية، وهي البلاد التي تقع إلى الشمال من البحر الميت. وقد خدعوا من قبل الكسيا الرسول الزائف، الذي ما زالت امرأتان من نسله، مارثوس ومارثانا، تُعبدان كإلهتين من قبل أتباعه. وكل عقائدهم متشابهة مع الأبيونيين».
لولوة الحمود ـ من سلسلة « 99 اسماً لله»

وتسمية المنطقة التي تعيش فيها هذه الطائفة في فلسطين باسم «العربية» يوحي بقوة أن أتباع هذه الطائفة كانوا قبائل عربية ما.
كما قلنا في المادة إياها، إن الباحثين يربطون بين هذه وبين طائفة المغتسلة، وزعيمها الذي يدعى «الحسيح»، التي حدثنا عنها ابن النديم في الفهرست. فالكسي Alksai هو الحسيح. واقترحنا أن الاسمين يعودان إلى أصل واحد هو «الكسيع»، وأن الكسيع هذا كان كاهناً لإله بهذا الاسم يتجسّد في حمار. فالكسعة في العربية هي الحمير، والكسع أو الكسيع هو الحمار.
وبحسب الأخبار التي وصلتنا من القرون الأولى الميلادية، فقد كان لزعيم هذه الطائفة، التي كان مركزها الرئيسي في العراق، كتاب أنزلته عليه الملائكة بحسب ادعاءات طائفته. وقد حمل نسخة من هذا الكتاب شخص من أفاميا في سوريا إلى روما شخص يدعى Alcibiades (السيبياديس، الكبياديس) في زمن البابا غالكستيوس Pope Callixtus (217-222 ميلادية). ولم يصلنا هذا الكتاب إلا جملة واحدة أوردها لنا المؤرخ الكنسي الفلسطيني أفيفانيوس من القرن الرابع الميلادي. وقد أوردها على سبيل التهكّم والاستخفاف وانعدام المعنى. والجملة منقولة من الحروف اليونانية إلى الحروف الإنكليزية هكذا:
Abhar anid moibh nochile daasim ane daasim nochile moibh anid abhar selam
وهي كما نرى جملة مكرّرة مرتين، لكن بترتيب معكوس في المرة الثانية.
Abhar anid moibh nochile daasim ane
daasim nochile moibh anid abhar selam.
ينتهي القسم الأول بكلمة ane، التي لا توجد في القسم الثاني. وينتهي القسم بالثاني بكلمة selam التي لا توجد في القسم الأول. بذا، فلدينا كلمتان غير مكررتين في كل قسم من القسمين هما:
ane
selam
ما عدا ذلك، فالكلمات الخمس المتبقية مكرّرة، لكن بشكل معكوس. ومن الواضح بالنسبة إليّ أنّ الجملة تعرّضت للتصحيف، لا بد، عند مرورها من لغتها الأصلية التي نتكهّن بها تكهناً إلى اللغة اليونانية. وقد اقترح أفيفانيوس أنّ الجملة عبرية، وفسرها انطلاقاً من هذا الفرض تفسيراً لم يقبله أحد تقريباً. لكن هذا يعني أنه حوّل، بشكل ما، الجملة إلى كلام عبري، وهو ما يضاعف بشدة احتمال تصحيفها. بناء على ذلك، يجب افتراض أن تصحيفات عدة حدثت للجملة. وهو ما يفتح مروحةً من الاحتمالات حول أصل عدد من كلماتها.
وفي العصر الحديث، توصل كلّ من by I. Stern وM.A. Levy على حدة إلى أن الجملة آرامية إذا قرأناها بالمقلوب ena misaad elichon biom dina raba (أنا مصاد إليكم بيوم دين ربا) وأنها تعني بناء على ذلك: «أنا أشهد عليكم في يوم الدين» (Elchasaites and Their Book, Gerard Luttikhuizen, August 2008)
والمحاولة تبدو مقنعة. لكن السؤال هو: لماذا يعمد الكتاب إلى إلغاز جملته التي تبدو بسيطة ولا خطر فيها؟ هل هناك ما يخشى منه حتى يقلب الجملة ويعمّيها؟ وليس هناك في رأيي ما يشير إلى ذلك. فالجملة عادية جداً ولا تحمل ما يبدو أنّه يسبّب مشكلة. وهو ما يشير إلى أنّ الأمر لا يتعلق بتقية وإخفاء للمعنى. أضف إلى ذلك، فهذه القراءة تفترض أنّ الجملة كما وصلتنا لم تتعرض لأي تحريف. وهو احتمال ليس كبيراً في الحقيقة.
جملة عربية؟
أما اقتراحي فهو أن الجملة في الأصل عربية. وهذا الاقتراح يقوم على ثلاثة أمور أساسية:
الأول: أنّ اسم الطائفة واسم زعيمها يبدأ بأل التعريف «ال». وهذا ما يوحي بأن الصيغة الأصلية لهذين الاسمين من أصل عربي. فالعربية هي اللغة السامية الوحيدة التي تستخدم «ال» التعريف.
الثاني: أنّ أفيفانيوس سمّى المنطقة التي تعيش فيها طائفة الكسائيين شمال البحر الميت باسم «العربية» وهو ما يوحي بأنها منطقة تتحدث العربية.
الثالث: أنّ عدداً من كلمات الجملة توحي بقوة بأنّها قد تكون عربية الأصل.
ولو أخذنا، وانطلاقاً من ذلك، الكلمة الثانية Anid، فإنه من السهل الافتراض أنّها «عنيد» في الأصل، وأنّ ما حدث هو تحويل العين إلى ألف في لغة ليس فيها حرف عين (اليونانية هنا). وإذا صح هذا، فإنّ الكلمة الأولى abhar يمكن أن تكون تحريفاً لكلمة «جبار». ذلك أنّ كلمة «عنيد» تكون عادةً قريناً لكلمة «جبار» في العربية. أي إننا مع «جبّار عنيد» التي وردت في سورة إبراهيم لكن في سياق سلبي: «وخاب كل جبّار عنيد» (سورة إبراهيم 15). وليست علاقة الكلمتين بآية من سورة إبراهيم مصادفة. فهناك دلائل على صلة هذه الطائفة بإبراهيم وديانته.
وإذا أضفنا إلى هذا كلمة ane (أنا) وكلمة selam (سلام)، فإن اقتراح الأصل العربي يصبح اقتراحاً جدياً. والكلمتان معاً تصبحان «أنا سلام»، أو «سلام أنا». ويبدو أنّ وضعهما في نهاية الجملتين، يهدف إلى الوصول إلى هذا. وفي سورة الحشر في القرآن، يصف الله نفسه بأنه السلام: «هو الله الذي لا إله إلا هو القدوس السلام المؤمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون» (سورة الحشر 23). وفي الحديث القدسي، يقول الله إنه هو السلام: «إني أنا اللّه لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن، إني أنا اللّه لا إله إلا أنا العزيز الجبار المتكبر» (أبو طالب المكي، قوت القلوب). وكما نرى، فجملة كتاب الكسيا تكاد تكون من الطراز القرآني والنبوي ذاته تقريباً. إنها ترداد مشابه لبعض أسماء الله المشهورة وصفاته لا غير.
بالتالي، يتبقى لدينا الكلمات الثلاث الصعبات: moibh nochile daasim. ويحق لنا بناء على ما أوردناه أعلاه أن نفترض أن كلمة moibh ربما تكون تصحيفاً لكلمة «مهيمن» التي وردت في الحديث القدسي. أما الكلمة الوسطى «نُكيل» فيبدو أنها من الفعل «نكل» العربي الذي يفيد معنى التنكيل. وفي القرآن: «إنّ لدينا أنكالاً وجحيماً» (المزمل 12). وتعتقد الغالبية أن الأنكال تعني القيود. لكن هذا ليس مؤكداً في نظري. ففي الحديث: «إن الله يحب النَكَلَ على النَكَلِ، يعني: الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب» (الجوهري، الصحاح). بذا فالنكيل هنا قد تعني القوي الشديد.
تظل كلمة daasim دسّام الصعبة. والجذر دسم يعطي معاني عدة: فالدسم السدّ. لذا يسمى سداد القارورة «دِسام». وفي حديث منسوب إلى النبي: «إنّ للشيطان لعوقاً ودساماً»، وبحسب المفسرين، فالدسام هو ما يسد الأذن، فلا تعي ذكراً أو موعظة. كذلك، فإن الدسمة: السواد. والدسيم: الكثير الذكر، أو القليل الذكر، أي إنه ضد. ولعل المعنى المقصود أن يكون الذكر والشهرة.
بناء على كل ذلك، يبدو أن جملة كتاب «الكسي، الكسيء، الكسيا» ذات طابع عربي حقاً. وإن صح هذا، فإن له مترتبات شديدة الأهمية. ذلك أن هناك من يربط بين طائفة الكسائيين وبين الصابئة المندائية في العراق. ويعتقد بشدة أن هذه الفرقة هي التي ذكرت في القرآن واعتبرت: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة البقرة 62). وقد اعتبر الصابئيون هؤلاء في الإسلام ضمن أهل الكتاب. فهل يكون كتابهم هو «كتاب الكسيء، الكسي، الكسيا» الذي حملت منه نسخة في القرن الثالث الميلادي إلى روما؟ هذا محتمل جداً في رأيي.
على كل حال، فقد حدثنا صاحب «الفهرست» عن كتاب محدد لنوع محدد من الصابئة يدعى الصابئة الإبراهيمية:
«قرأت في كتاب وقع إلي، قديم النسخ، يشبه أن يكون من خزانة المأمون، ذكر ناقله فيه أسماء الصحف وعددها والكتب المنزلة ومبلغها- وأكثر الحشوية والعوام يصدقون به ويعتقدونه- فذكرت منه ما تعلّق بكتابي هذا. وهذه حكاية ما يحتاج إليه منه على لفظ الكتاب: قال أحمد بن عبد الله بن سلام، مولى أمير المؤمنين هارون- أحسبه الرشيد-: ترجمت هذا الكتاب من كتاب الحنفاء وهم الصابيون الإبراهيمية الذين آمنوا بإبراهيم عليه السلام وحملوا عنه الصحف التي أنزلها الله عليه» (ابن النديم، الفهرست).
وهذا النص مهم جداً. وأهميته تكمن في أنه يحدثنا عن وجود «صابيين إبراهيميي»، أي عن وجود صابئة ذات طابع إبراهيمي. وهو يصف هذه الطائفة بأنها حنيفية، وهو ما يعني أنها قريبة جداً من الإسلام الذي يصف نفسه بأنه حنيفي، وأن إبراهيم هو الحنيفي الأول. والسؤال: هل يكون كتاب مكتبة المأمون الذي حدثنا عنه ابن النديم على علاقة بكتاب الكسيا؟ أو هل هو نسخة متأخرة منه؟ أم هو شروح وتفسيرات له؟
نحن لا ندري. لكن هذا احتمال لا يمكن نفيه.
في كل حال، فأحمد بن عبد الله بن سلام يقول إنه ترجم الكتاب ترجمة. فعن أي لغة ترجمه؟ عن اليونانية، أم عن السريانية، أم عن لغة أخرى؟ نحن لا ندري. ومهما يكن من أمر، فعلينا أن نتذكر أنّ قريشاً رأت في البداية أنّ دعوة الرسول دعوة قريبة من الصابئية. فقد قال أناس منها وقتها: «إن محمداً قد صبا»، أي إنه صار صابئياً. وهي جملة كتاب الكسيا التي تحدثنا عنها هنا تؤكد وجود علاقة نصية ما بين الإسلام والصابئة.
إذن، فجملة كتاب الكسائيين (أو الكسعيين بالأحرى) الوحيدة التي وصلتنا، قد تفتح الباب لإلقاء ضوء غير متوقع بالمرة على بدايات الإسلام وبواكيره.

* شاعر وباحث فلسطيني