1. الباز
إنه الطير الحر.
أعرفه من خبط الأجنحة؛ ومن استقامتها، حين يفردها ليثير لعاب الصيادين الكرد وفخاخهم، ينظرون إليه بحسرة بينما يحلّق منخفضاً فوق البيوت والأشجار والآمال القديمة والأحلام العالية.
إنه الطير الحر.
طيري الذي ينتظرني ويحرس الشمس في طريقها إلى جبال كردستان.

بازٌ ملكيٌّ (رسمة أنفوغرافية، مِلْكٌ مُشاعٌ من النت)


2. الفخاخ
في صناعته لفخاخه، يحرص أبي على شراء خيوط قطنية صافية ويقوم بدهنها بالشمع والعسل، فتصبح قوية وناعمة ويصنع شباكاً صغيرة من خيوط النايلون العريضة كي لا تجرح مخالب الطير الحر.
في المساء، يشعل لفافته ويحكي لنا حكايات عن طيره الحر الأبيض، عن الأحلام التي ظلّت بعيدة وعالية مثل الطير الحر الذي لن يأتي أبداً...
أحياناً كنت أجد ريشاً في سرير أبي. أحياناً كنت أسمع خبط أجنحة قوية في غرفة أبي. هل زاره الطير الحر في الليل؟ هل حاول أبي الطيران؟
ربما.

3. حجل
في سوق الطيور في المنامة، وجدت طائر الحجل وحيداً في قفص وقربه البائع الهندي.
وقبل أن ألتفت نحو فريد رمضان، لأخبره عن العلاقة بين هذا الطائر والكرد، رأيت الطائر ينظر نحوي وكأنه يعرفني.
اشتريته وتركته يطير، حلّق عالياً نحو جبال كردستان.

4. حقل ألغام
حقل ألغام كان يفصل بيننا وبين الأهل الذين ظلوا في الطرف الآخر بعد اتفاقية سايكس بيكو.
وكان أحد الأقارب يعرف مكان الألغام (في السبعينيات) ويتسلى بفكّها وإزالتها وفتح الطريق أمام المهربين والمحرومين من جوازات السفر لرؤية أهلهم وزيارة عائلاتهم في نصيبين وماردين. وذات يوم انفجر لغم بين يديه، تناثر جسده: قسم ظل في الطرف التركي والقسم الآخر في الطرف السوري من الحدود. حفرنا له قبراً عندنا ودفنّاه وحفروا له قبراً هناك ودفنوه.
في العيد كنّا نزور قبره ونلوح لأهلنا الذين يزرون قبره الثاني في الطرف الآخر... ولَم يكن يقطع نحيبنا غير مرور القطار التركي وتلويحات الركاب الذين كانوا غرباء مثلنا في بلادهم.

5. القصيدة الأولى
القصيدة الأولى كتبتها على جدار بيتنا الطيني في كرصور وقرأتها لأمي وأختي عيشانه وحقل القمح القريب وعصافير الدوري في باحة البيت...
أسراب القطار تحلق عالياً فوق كرصور في طريقها نحو الهضاب القريبة في بيرا بازن وكيستك.
أتأملها بحرقة مثل أم رأت ابنها الجندي في شاحنة روسية قديمة تنقل الجنود إلى الحرب.
أحب العصافير في سماء كرصور والأزهار بين حقول القمح في هضابها، والذين يعودون إليها من المدن البعيدة منهكين وحين يضعون رؤوسهم على حجارتها ينامون بسعادة.
أحب الرعاة في الهضاب القريبة والشمس في سماء كرصور.
أحب فارس باڤي فراس والعشاق الذين يبكون خلف النوافذ البعيدة،
في گرباوي وسهرمكة ونيف.
أحب السيارات التي تتعطل دائماً في منتصف الطريق بين كرصور والقامشلي.
أحب الأطفال الذين يدخنون مثل الكبار في قدوربك وينفخون دخان سجائرهم في وجوه بعضهم ثم يسعلون بسعادة ويسحبون سكاكينهم عالياً دون أن يجرحوا الهواء.
تعلمتُ الشعر من الحياة، من السير خلف أبي في هضاب قوچي، من الركض خلف أسراب الزرازير التي تقترب من الأرض ثم تحلق عالياً بين حقول القمح.
من البيوت الطينية والنوافذ الخشبية الكبيرة في كرصور، من الركاب الذين كانوا ينتظرون حسينو وسيارته (شيڤروليه 1957) في القامشلي قرب بقالية عزتو. من الغبار الذي يتركه القطيع خلفه في براري بيرا بازن.
كتبت القصيدة الأولى على الجدران الطينية في كرصور تحت شمس أيلول. وتركتها هناك كي لا يقول لي أحد:
— لم تترك شيئاً خلفك لأهلك وذهبت بعيداً.

6. كتب
حين سافرت إلى هولندا، تركت ورائي مكتبة صغيرة: مجموعات شعرية وترجمات من الشعر العالمي، استولى عليها جارنا بائع اللوز، كان يقطع صفحة من الكتاب ويضع اللوز الأخضر فوقها ويرشّ عليها الملح ويقدمها للعشاق الصغار في قدوربك.
شعر ولوز أخضر وآهات العشاق.
تركت كل ذلك خلفي ومضيت.

7. الغيوم
الغيوم تترك أولادها بين حقولنا في كرصور، وتمضي نحو الشمال لأنها تعرف جيداً أننا نحب الضيوف ونترك خناجرنا تحت وسائدهم.

* آسن/سوريا