صحوت في الثالثة بعد منتصف الليل. وظللت أتقلّب من جانب إلى جانب. كنت أفكر في الأصل التصويري لحرف الفاء. يقولون إنه «الفم». وأنا متشكّك في هذا. حجب حرف الفاء النوم عن عيني. وفي الساعة الرابعة إلا ربعاً نهضت.
دفّأت كوب ماء وعصرت عليه نصف ليمونة وشربت. شغلت جهازي، وتطلعت إلى عناوين الأخبار. ثم فتحت بعض الملفات، وأقفلتها. في الخامسة والربع، سوف أذهب بحثاً عن التين. كنت أحرق الوقت كي تأتي الخامسة والربع. لبست ملابسي وحذائي الرياضي. لكن الخامسة والربع تأخرت. فحملت عصاي، وخرجت في العتمة. في الساعة الخامسة وثلاث دقائق.

جون هاغينز. «حبّة تين» (تقنية نقل الصورة ـ 11.4 × 8.9 سنتم ــــ 2000)

كان العالم ساكناً. خطوت خطواتي نازلاً الشارع، فأضاء بلا توقع نور أحد الأعمدة الذي كان مطفأً، وكشفني. فاجأني هذا وأزعجني. كنت أود أن تمتد يد لتطفئ كل أعمدة النور في المدينة. فقد هيأت نفسي للمشي في العتمة الطرية.
انحدرت في النزلة القوية. عادة أختبر طاقتي وقوتي حين أصعد هذه النزلة من الاتجاه المعاكس. إن صعدتها سريعاً، ومن دون لهاث شديد، أكون في وضع جيد. إن لهثت وسعلت يكون الوضع غير جيد. هذه الطلعة مقياس صحتي.
مشيت، وفي الطريق رفع الأذان الأخير. وأنا لست ذاهباً إلى الصلاة بل إلى التين. أنا سارق تين في العتمة. والله سيغفر لي لأن قطف التين قبل طلوع الشمس صلاة. قطعت الشارع الرئيسي، ثم صعدت الجبل الذي يمتد عليه حي «سطح مرحبا». صعدت مسرعاً، ثم انحدرت منه نحو الوادي الذي يصعد فوقه جبل الطويل. عصاي في يدي والكيس في جيبي.
وصلت إلى التينات الأربع.
ثلاث منها على الشارع، والرابعة منزوية قليلاً. الرابعة «سمارية»، أي ذات تين أسود. أما الثلاث الأخرى فتينها «بياضي»، أي أبيض. وهو أبيض مقارنة بسواد تين الرابعة. لكنه في الحقيقة أخضر شاحب الخضرة. لم أتمكن من أن أبصر أي ثمرة تين على التينة «السمارية». كانت العتمة مسيطرة، وتخفي الثمرات السوداء. لقد بكرت أكثر مما يجب في ما يبدو. هكذا أنا عجل، أقامر دوماً بالوقت وأخسر. هبطت إلى التينات البياضيات. عيني لم تبصر التين هناك أيضاً. تحسست رؤوس الأغصان بيدي. قطفت ثلاث أو أربع حبات شبه ناضجات. ما زال الوقت مبكراً حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. حتى تسفر حبة التين عن وجهها. عدت إلى التينة «السمارية» من جديد علّني أبصر شيئاً. قلت: لعل سواد الثمرة يتغلّب على سمرة الفجر، فألقطها. لم يحصل ذلك. عليّ أن أنتظر عشر دقائق أخرى. الفجر هنا يتغير من دقيقة إلى دقيقة.
كان أبي حدّاراً يبيع الخضار على حماره. كان ينهض مع الفجر، ويمضي من قرية إلى قرية. أخذني معه مرة، ومضينا. مشينا، ومشينا، وكلما مشينا اشتدت العتمة وتكثّفت. واكتشفنا أن الفجر لم يكن فجراً. كان فجراً كاذباً. خدعنا القمر فظنناه الفجر. وقدر أبي أنّ الساعة حوالى الثانية. كانت الساعات قليلة أيامها. هذا يعني أننا خرجنا من البيت في الواحدة والربع أو الواحدة والنصف. قال أبي: سنميل إلى جانب الطريق. ملنا وقعدنا تحت خرّوبة. حاولنا أن نأخذ غفوة قصيرة حتى يظهر الفجر الحقيقي. لكن لم ننم. وسمعنا أصوات حيوانات تجري. قال أبي: هذا الضبع. ثم قال لي: إذا صادفك الضبع في الطريق، فنم. اربط الحمار، ونم. الضبع لن يقترب منك إن استلقيت، سيظن أنك تنصب له كميناً. وقد تبعت نصيحته في ما بعد.
وأنا الآن وحدي في العتمة. وليس هناك ضباع. وقفت منتظراً قرب التينة علّ العتمة تخفف من حدتها. ثم سمعت هسفة، صوتاً، إلى الشرق مني. تطلعت فإذا به خنزير بري في قدر حمار. لم تكن خنزيرة أنثى مع خنانيصها. خنزيرة مع خنانيصها خطرة جداً. فهي ستهاجم دفاعاً عن الخنانيص. ليس هناك خطر. فوق ذلك، فالخنزير يقتل الآلهة، وأنا لست إلهاً مثل أدونيس الذي قتله الخنزير بنابه. طرقت ثلاث طرقات قوية بالعصا كي يبتعد الخنزير. سمع الطرقات، فابتعد ببطء. لم يشعر بخطر جدي.
ما زالت عتمة الفجر قوية، وحبات التين لا تظهر. جذبت غصناً. قرّبته مني وتحسّسته. ثم جذبت ثانياً وثالثاً. وهكذا حصلت على عدة حبات. ثم عدت ثانية إلى التينات البياضيات. ثم رفع أذان قيام الصلاة داخل المسجد: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، وأنا قائم أتحسّس التينات.
ثم تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض قليلاً، فأخذت أرى الحبات التي نضجت أو اقتربت من النضوج. جمعت في الكيس عشرين حبة. ثم عدت إلى التينة السمارية، وجمعت عشرين حبة أخرى. هذا يكفي. إن كنت أريد أكثر، فعليّ أن أنتظر ربع ساعة أخرى. وأنا لا أريد الانتظار. لا أحب الانتظار. وأريد كذلك أن أعود للبيت قبل طلوع الشمس. أريد أن أصلي للتين ورب التين قبل طلوع الشمس.
اكتشفنا أن الفجر لم يكن فجراً. خدعنا القمر فظنناه الفجر


مشيت بعصاي وكيسي في يدي. ثم انحرفت باتجاه التينة «الخرطمانية» التي تقع في بستان زيتون مهمل، وتينها أخضر ممشّح بالبنفسجي. مشيت في طريق النمل في البستان. العشب الجاف على الميلين، وطريق النمل بينهما. النملات نائمات، وأنا أمشي في الطريق الذي عبدنه. قطفت بضع حبات، ثم خرجت من البستان عائداً للبيت.
صعدت الطلعة مسرعاً. لم ألهث كثيراً، ولم أسعل. أنا على ما يرام.
صار النهار نهاراً، لكن الشمس لم تطلع. وفي الساعة السادسة دخلت البيت. غسلت التين وأكلت حبة، ثم طلعت شمس الثاني من أيلول.
وفي الثاني من أيلول كنت أصلي وحدي لرب التين.

* شاعر فلسطيني