تبدو آيات الصافنات الجياد في «سورة ص» صعبة، بل وملغزة ربما، في أكثر من نقطة: «ووهبنا لداود سليمان نِعم العبد إنه أوّاب. إذ عُرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي حتى توارت بالحجاب. ردّوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق» (سورة ص: 30-33). أولاً: لماذا سمّت الآيات الخيل بالخير: «إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي». فالكل تقريباً مجمع على أن «الخير» هنا تعني الخيل. فهل هذا تصحيف أم ماذا؟ وقد قرأ عبدالله بن عباس الكلمة باللام (الخيل). وهذا بصراحة أكثر منطقية. لكن وجود «الخير» بدل «الخيل» جعل عدداً من المفسرين يفترضون أن الخيل هنا خيل حربية، انطلاقاً من الحديث النبوي الشهير: «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». فالخيل التي يذكرها الحديث هي خيل الحرب.
ثانياً: وما هو السيّئ الذي توارى بالحجاب في الآية: أهي الشمس أم الخيل؟ والاتجاه الغالب أن الأمر يتعلق بالشمس، وأن النبي سليمان نسي صلاة العشاء أو العصر بسبب اهتمامه بالخيل الصافنة وملاعبتها. لكن هناك من يقول إنها الخيل لا الشمس. أما أي حجاب هو الذي وارى الشمس أو الخيل، فنحن لا ندري.
ثالثاً: أي طراز من الخيل هي الصافنات؟ وهذا هو السؤال الأعقد، والذي دار عليه الجدل، ويدور حتى الآن.
أما نحن، فسندلي بدلونا بشأن «الصافنات الجياد» فقط. وهناك بالطبع إجماع على أنّ الصافنات هي الخيل. لكن الخلاف يدور حول أي طراز من الخيل هي، أي حول كلمة «الصافنات» عملياً. والغالبية من المفسرين يجمعون على أن الخيل الصافنة هي الخيل التي تقف على ثلاث قوائم وتلمس بالرابعة الأرض لمساً. لكن هناك من يقول إن الصافنات هي الخيل القائمة بالعموم: «الصافن من الخيل القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، وقد قيل: الصافن القائم على الإطلاق، قال الكميت: نعلمهم بها ما علمتنا/ أبوتنا جواري، أو صفونا. وفي الحديث: من سرّه أن يقوم له الناس صفوناً أي واقفين... ومنه الحديث: فلمّا دنا القوم صافنّاهم أي واقفناهم وقمنا حذاءهم.... وقال الفراء: رأيت العرب تجعل الصافن القائم على ثلاث وعلى غير ثلاث، قال: وأشعارهم تدل على أن الصفون القيام خاصة» (لسان العرب).
لكن إذا كان الصفون هو قيام الخيل على ثلاث، فالخيل كلها في الواقع تقوم على ثلاث في لحظات محددة. بذا فجميع الخيل في الحقيقة صافنة. وهذا ما يعاكس منطقة الآية، التي تجعل الصفون صفةً خاصة. وإذا كان الصفون هو القيام عموماً، فلماذا تسمى الخيل واحدها صافنات، أي قائمات؟ هذا غير منطقي.
لكن هناك من أخبرنا أنّ الصافنات خيل ذات أجنحة: «قال ابن زيد: الصافنات: الخيل، وكانت لها أجنحة. وأما الجياد، فإنها السِّراع، واحدها: جواد... وذُكر أنها كانت عشرين فرساً ذوات أجنحة... حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، في قوله: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَاد»، قال: كانت عشرين فرساً ذات أجنحة» (تفسير الطبري).
وهناك من يقول إنّ هذه الخيل جاءت من البحر: «حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) قال: الخيل أخرجها الشيطان لسليمان، من مرج من مروج البحر» (تفسير الطبري). ويبدو لي أن الخيل الصافنة هي الخيل المجنحة فعلاً. وإذا صح هذا، فهو يشير إلى أن خيل سليمان كانت خيلاً أسطورية، وليست خيلاً واقعية. وهذا يعني أن إصطبلاته الشهيرة كانت إصطبلات أسطورية بخيل أسطورية. يدفعني إلى هذا الحكم أنني عثرت في أحد المواقع الإلكترونية على حفر لحصان مجنّح قربه نقش مكتوب بالمسند يشير إلى أنّ الخيل الصافنة هي الخيل المجنحة.



ناشر النقش يمني كما يشير لقبه «اليافعي». وقد قرأ الرجل حروف النقش بشكل سليم جداً. وكما نرى في الصورة أعلاه، فلدينا فرس مجنّح منحوت نحتاً بارزاً على حجر. وقد نُقشت أمام الفرس أربعة من حروف المسند قرأها الناشر اليافعي قراءة صحيحة هكذا: ص ف ن ث (صفنث). وقد لوّنت الحروف الأربعة للكلمة بالأحمر حتى تتضح للقارئ، كما تظهر الصورة أدناه. والحروف تُقرأ من أعلى إلى أسفل.



وفي تقديري، فإنه من الصعب ألا تكون كلمة «صفنت» إشارة إلى الفرس. وربما افترض أحد أنّ الحروف تمثل اسم حافر الصورة. لكن ليس لدينا الاسم (صفنث) لا في جنوب الجزيرة العربية ولا شمالها. بناءً عليه، لا بد من أنّ «صفنت» صارت «صافنات» في الآية القرآنية أعلاه. وما تغير فقط هو تحول التاء إلى ثاء. وهذا أمر ليس بالغريب، فالتاء والثاء حرفان قريبان جداً أحدهما من الآخر، وينقلبان بسهولة في اللغات السامية عموماً. بذا يمكن لنا أن نقرأ الكلمة على أنها «صفنت» بالعربية الشمالية. وإذا أضفنا حروف العلة التي لم تكن تُكتب، فسوف نكون في الواقع مع «صافنة».
وإذا صح هذا، فهو يعني أن الصافنة هي الفرس المجنح، وأن الصافنات هي الخيل المجنحة، وليست القائمة على قوائم ثلاث أو غير ذلك. أي أن الصافنة اسم جنس للخيل المجنحة. عليه، فالخيل التي استعرضها سليمان كانت خيلاً مجنحة، والصافنات الجياد تعني: الجياد المجنحة، وليس أكثر من ذلك. ومن المحتمل أنها هي التي «توارت بالحجاب» وليس الشمس، أي أنّها عملياً طارت وابتعدت ثم استدعاها سليمان فعادت إليه، وأخذ يمسح أعناقها وسيقانها تحبّباً.
وعلى أي حال، يبدو أن تقليد الخيل المجنّحة الصافنة ظل موجوداً حتى صدر الإسلام. ولولا ذلك، لما اقترح أحد ما أنّ الصافنات هي الخيل المجنّحة. لقد عرف من قدّم هذا الاقتراح عبر الكتابات أو عبر الرواية الشفوية على تقليد الخيل المجنحة الصافنة.
والخيل كما نعلم من فصيلة «الخيليات» التي تشمل: البغال والبراذين والحمير الأهلية وحمير الوحش والحمر الأفريقية المخطّطة. ومن المحتمل أنّ الأنواع المجنحة من هذه الأنواع كانت تسمى «الصافنات» أيضاً. بناءً عليه، يبدو أن البراق الذي ركبه الرسول في رحلة الإسراء إلى القدس، كان واحداً من الصافنات المجنحة. فليس ممكناً أن يصل من مكة إلى القدس في ليلة واحدة إلا براق مجنّح. وقد وصف البراق بأنه دون البغل وفوق الحمار. وفي حديث منسوب إلى الرسول أنه قال: «أتاني جبريل بدابة بين الحمار والبغل لها جناحان» (الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار). وهو ما يظهر أنّ الصافنات اسم لمجنح من الخيليات عموماً.
أما المسيح فقد جاء إلى القدس ملكاً على ظهر جحش ابن أتان: «ووجد يسوع جحشاً فجلس عليه كما هو مكتوب. لا تخافي يا ابنة صهيون هو ذا ملكك يأتي جالساً على جحش أتان» (يوحنا 12: 14-15). بذا فالحمار أيضاً مركوب النبوات مثله مثل البراق والصافنات الجياد. لكن الأهم أن نبوة المسيح ونبوة محمد، عليهما السلام، مرتبطتان بالخيليات، أي بالصافنات.

* شاعر فلسطيني