بين الكتابة التاريخيّة والتخييل الروائي، تتأرجح سيرة المُؤرّخ اللبناني خالد زيادة (1952). عمل، على مدار سنواتٍ طويلة من الاشتغال الأكاديميّ، على التنقيب في قضايا وإشكالات تتعلّق بواقعيّة الفكر العربي الحديث والمعاصر. لذلك، برزت مؤلفاته على شكل كتابة تحفر في سياقات الأفكار ومَنابعها ومدى تبلورها داخل بعض المشاريع الفكريّة، كما يُطالعنا في كتابه «المسلمون والحداثة الأوروبية» الذي عمل فيه على تقديم قراءةٍ في العديد من المتون الفكريّة ذات الاتصال بالفكر العربي. والحقّ أنّ كتابات زيادة أقرب إلى الفكر منه إلى التاريخ. طريقته في عرض الأحداث وفهمها وطريق تتبّع مساراتها، يجعلها قريبة من التشكّل الفكري، الذي يقود القارئ إلى التفكير وطرح الأسئلة، بدل الانصياع بشكلٍ كلّي إلى قراءة تاريخيّة سرديّة تلهث وراء الأحداث السياسيّة والحالات الاجتماعية. من ثمّ، فإنّ هذا النمط في بلورة رؤية جديدة للتاريخ تستعين بمناهج معاصرة أثبتت نجاعتها في تشريح الخطاب التاريخيّ الغربي، يستعيدها دوماً خالد زيادة باعتبارها مُختبراً فكرياً تتبلور منه الأفكار والسياقات والمفاهيم. ورغم اهتمامه بالمجالين السياسي والاجتماعي، فإنّه استطاع في السنوات الأخيرة تأكيد أهميّة كتاباته وقُدرته على الغوص في مداراتٍ أخرى تتعلّق بمسألة التحديث داخل الفكر العربي، من خلال طرق موضوع المدينة العربيّة وعلاقتها بمفهوم الحداثة ومسار التحديث. عمل في الكتاب على رصد جملة من التحوّلات، التي ألمّت بمورفولوجية المدينة الإسلامية منذ تشكّل بواكيرها الأولى. عن مشروعه الفكري وعلاقته بالرواية وطبيعة الكتابة التاريخيّة وما يتّصل بها من قضايا الإسلام وأوروبا والاستشراق، كان لنا هذا الحوار الخاصّ مع المؤرّخ اللبناني
كنت من المؤرخين الذين اشتغلوا على التاريخ العثماني في حقبة باكرة من اكتشاف الحداثة الأوروبية، ما الذي توصلت إليه بخصوص هذه المرحلة، وكيف تقيّم طبيعة العلاقة بين الإسلام والحداثة الأوروبية في ذلك؟
ــ ينبغي في البداية الإشارة التي تفوت الكثير من الباحثين والمؤرخين وهي أن الحداثة مسار تراكمي، لا أيديولوجية أو فكرة أو منجز مكتمل. في مطلع القرن الثامن عشر تيقن العثمانيون أن أوروبا قد امتلكت تقنيات عسكرية متقدمة، كما توصلت إلى علوم وابتكارات مفيدة. وقد أرسل الصدر الأعظم سفيراً إلى باريس ليقف على ما حققته فرنسا في هذه المجالات، لكن هذا السفير الذي وصل إلى باريس عام 1721 (قبل الطهطاوي بما يزيد على مئة سنة) لفتت انتباهه القصور والحدائق المنظمة والفبارك التي تصنع الزجاج، والمسارح والأوبرا والمرصد الفلكي. لكن السفير محمد جلبي أفندي، كان ما زال يعتقد بأن إسطنبول أضخم من باريس، وأن العادات الاجتماعية نقيض للعادات العثمانية. وفي ذلك التاريخ، كان النظام السياسي الفرنسي شبيهاً بالنظام السياسي العثماني، وكان لرجال الدين دور في الحكومة ورسم السياسات. والأهم من ذلك أن السفير قد زار باريس قبل أن تبرز أسماء مثل مونتسكيو، وڤولتير وروسو، أي قبل عصر التنوير. من هنا كان تفكير الطبقة السياسية في إسطنبول ينصّب على الإفادة من التقنيات التي ظهرت في أوروبا، والهندسة العمرانية للقصور. بعد هذه الزيارة، دخلت الطباعة إلى عاصمة الدولة العثمانية عام 1727.


الشخص الذي أوكلت إليه المطبعة هو إبراهيم متفرقة، وهو من أصل هنغاري اهتدى إلى الإسلام. كتب عام 1731 رسالة قصيرة ذكر فيها أن القوانين في أوروبا تتأسس على العقل وليس على الشريعة، وأن التنظيم أو التكتيك هو الذي يجعلهم يكسبون المعارك في الحروب. وفي سبعينات القرن الثامن عشر، كتب أحمد رسمي (رئيس الكتّاب وهو منصب يعادل وزير الخارجية) بعد زيارات قام بها إلى فيينا وبرلين، رسالة تضمنت أفكاراً تتلخّص في نقد المعتقدات التي تأسست عليها الدولة لجهة انتصار العثمانيين على الأوروبيين الكفار.
أسوق كل هذه الوقائع لأقول بأن إدراك الحداثة الأوروبية قد تطور مع أوروبا ذاتها، فأوروبا لم تنجز الحداثة دفعة واحدة، وهو أمر ينبغي أن نضعه في اعتبارنا حين نتناول موضوع الحداثة.
وحين نصل إلى نهاية القرن الثامن عشر، سنجد أن أوروبا، قد أنجزت ثلاث ثورات كبرى هي الثورة الفكرية مع مفكري الأنوار والثورة الصناعية مع اكتشاف طاقة البخار والثورة السياسية التي قلبت الملكية وأرست أسس النظام الجمهوري. فأوروبا في مطلع القرن الثامن عشر، هي غير أوروبا مطلع القرن التاسع عشر حين زارها الطهطاوي، وعاصرها السلطان محمود الثاني (1808-1839) ومحمد علي باشا (1805-1848). وقد أقرّت في تلك الفترة في أوروبا الدساتير الحديثة، والبرلمانات، ومبادئ الحرية، والمساواة. وسنجد صدى ذلك في عصر التنظيمات العثماني الذي بدأ مع الإصلاحات التي عرفت بخط كلخانة 1839، والذي أقرّ المساواة بين الرعايا العثمانيين. وهذا يعني باختصار أن الحداثة الأوروبية كانت تتغير وتطور مؤسساتها السياسية كما تتطور خلالها الأفكار والعلوم الإنسانية والاجتماعية.

في السياق نفسه، ما طبيعة نظرة المسلمين إلى العالم الغربي وحداثته وكيف تطورت حتى وقتنا الراهن؟
ــــ لا شك في أنّ التحديث العسكري والتعليمي أدّى إلى استبعاد المؤسسة الدينية، أكان في إسطنبول أو في القاهرة. بعد تعيينه والياً على مصر، طلب محمد علي باشا من العلماء أن يلتزموا التدريس في الأزهر. أما في إسطنبول، فقد سرت إشاعات في أوساط العلماء، بأن مؤسساتهم ستكون التالية بعد إلغاء قوة الإنكشارية والقضاء عليها عام 1826. ومع تطور وتوسع الإصلاحات والتحديثية، تقلّص دور العلماء في مجال التعليم والقضاء. من هنا فإن الأجهزة الدينية كانت حذرة من التحديثات والإصلاحات. مع ذلك، لم يمنع هذا من ظهور أصوات مسلمين تتبنى وجهة نظر مغايرة، فرفاعة الطهطاوي الذي أمضى خمس سنوات في باريس، كان يرى بأن المدينة الأوروبية بمعنى الحداثة الغربية لا تتعارض مع الإيمان. وكانت وجهة نظر خير الدين التونسي مؤلف كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» أكثر وضوحاً. إذ قال بأن المدنية الأوروبية تيار جارف لا بدّ من السير في مجراها في التنظيمات الحديثة. وقد عبّر في ذلك عن رؤية تاريخية عميقة، فقد كان شاهداً على انتشار هذه المدنية في كل أرجاء العالم وعلى تفوقها في المجالات المتعددة. كتب خير الدين التونسي ««أقوم المسالك» عام 1867، إلا أنه عاش ليرى التطورات اللاحقة، وأبرزها احتلال تونس من جانب الفرنسيين.
أدى استعمار مصر وتونس عام 1881، إلى إشكاليات لم تكن مطروحة من قبل، وكان العامل وراء بروز تيارات وأفكار لم تكن مطروحة بالنسبة إلى جيل الطهطاوي والتونسي. طرح السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الإسلامية لمجابهة التحديات الأوروبية، وكان ذلك بداية ما يمكن أن نسمّيه تسييس الإسلام، وهي الفكرة نفسها التي طرحها الإمام جمال الدين الأفغاني. ومن جهة أخرى، دعا الإمام محمد عبده إلى فصل الدين عن السياسة. وبمعنى أدّق تحرير الإسلام من أي شكل من أشكال السلطة، وكان تأثيره كبيراً في البلاد العربية والإسلامية بصفته رائد الإصلاح.
لم يكن الإسلام إذاً في منأى عن التأثر بالتحديث. أثر الحداثة الأوروبية وتقدم الغرب أدّيا إلى طرح سؤال الإصلاح: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ وهو عنوان لأحد كتب شكيب أرسلان. وهنا أيضاً نشأ تياران، الأول هو القائل بإصلاح التفكير الإسلامي. أما الثاني فهو الاتجاه الرافض لكل ما يأتي من أفكار ومبادئ من الغرب، وهذا الاتجاه هو الأصل في نشوء الحركات الإسلامية على تنوعها.

تقول بأنّه لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب، وهو عنوان أحد كتبك. ما الأساس المعرفي في السياق التاريخي والواقع العيني الذي احتكمت إليه في صياغة هذا الطرح الإبستمولوجي؟
ـــــ كان تأثير أوروبا كبيراً ليس في العالم العربي والعالم الإسلامي، ولكن في كل أنحاء العالم. كانت أوروبا تتغير وتتطور حداثتها، وكان تأثيرها يتغير. في مرحلة النهضة العربية أو عصر التنظيمات العثماني، في أواسط القرن التاسع عشر، ظهرت الإصلاحية- الإسلامية التي رأت أنه لا بد من مواجهة أفكار أوروبا من خلال تجديد طرائق التفكير لدى المسلمين، والأخذ بقيم الحرية والمساواة... وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ظهرت في أوروبا التيارات الأيديولوجية الكبرى كالاشتراكية والقومية، فظهرت في بلادنا الأحزاب القومية والشيوعية والاشتراكية. هذه الأحزاب التي أنشأت أنظمة حاكمة في العديد من البلدان العربية.
كانت كتابة التاريخ عند الجبرتي وابن أبي ضياف وغيرهما، تنطلق من مقدمات دينية، إلا أنها كانت قليلة الحمولات الأيديولوجية


لكن هذه التيارات رأينا كيف تلاشت في أوروبا وفي العالم أجمع، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. وبهذا المعنى، فإن أوروبا التي قدمت أفكاراً للعالم في القرن التاسع عشر، وتيارات أيديولوجية انتشرت نماذجها في العالم أجمع وفي عالمنا العربي، لم يعد لديها ما تقدمه في هذا المجال. يمكن أن نلاحظ اليوم تصاعد العنصرية في عدد من بلدان أوروبا، وازدهار الشعبوية. ومع ذلك، فإن فكرة الاتحاد الأوروبي تعكس تفكيراً براغماتياً يقوم على وعي مصالح دول أوروبا وتكاملها من دون حمولات أيديولوجية.
ويمكنني أن أضيف هنا، بأنّ ما فاتنا ولم نجد له أصداء في عالمنا الفكري، هو أن أوروبا التي تخلّت عن الأيديولوجيات الشمولية من دون أن ننتبه إلى ذلك في حينه، كانت تجري مراجعة نقدية لأفكارها ولحداثتها وعقلانيتها. وبعد الحرب العالمية الثانية، كان السؤال العميق هو: كيف يمكن لأفكار التنوير أن تفضي إلى ظهور الفاشية والنازية وما سببته من مآس وشكوك في العقلانية ذاتها. ومن هنا، نشأ نقدٌ للأفكار الشمولية والأفكار الكلية التي تفضي إلى الأحادية وترفض التعددية.

أين تضع الإنتاج الاستشراقي في هذا السياق؟ وكيف ننظر إلى الجهود التي بذلها المستشرقون في التعرف إلى التراث العربي؟ وأين تضع نقد الاستشراق في هذا السياق؟
ـــ لقد انتشرت فكرة نقد الاستشراق في العقود الثلاثة الأخيرة. وهناك جانب محق في نقد النظرات الاستشراقية في الحقبة الاستعمارية. هذه النظرات التي صنعها سياسيون غربيون وباحثون انتروبولوجيون وصحافيون تنم عن استعلاء الرجل الأبيض في أفريقيا والهند والصين والعالم الإسلامي. إلا أن كل ذلك لا علاقة له بالجهود العلمية التي قام بها علماء أفنوا حياتهم في البحث في مجالات اختصاص تنتمي إلى العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية وعلم الآثار.
لقد برز علم الاستشراق الذي لا يختّص فقط بالشعوب الإسلامية، لكنه يشمل الهند والصين وغيرها من شعوب آسيا، مع بروز العلوم الإنسانية في أوروبا بما في ذلك اللغة والتاريخ والآداب. ونعرف أن الجهود الأولى ترجع إلى القرن السابع عشر والثامن عشر مع ترجمة نصوص عربية إلى الفرنسية مثل جغرافيا ابن حوقل وتاريخ ابن خلدون وغيرهما من النصوص التي كان الناطقون بالعربية قد أهملوها، والدراسات الاستشراقية المبكرة اعتنت باللغة والشريعة والتاريخ وبشكل عام بالحضارة. وقد ترافق ذلك مع صعود الرأسمالية وانتشار الأوروبيين في أصقاع العالم.
إنّ الجهود الاستشراقية تنتمي إلى ثقافة أوروبية نمت منذ عصر النهضة التي تتصف بالعقلانية، والحشرية، وحب الاستطلاع، والنقد. ويمكننا أن نقدم مثلاً ساطعاً على ذلك في علماء الحملة الفرنسية، الذين عكفوا على اكتشاف الآثار الفرعونية وتكللت جهودهم بنشر أعمالهم في مجلدات تحت عنوان «وصف مصر» قدمت مثالاً على جهود أشخاص أمضوا أوقاتاً في حرّ الصحراء لقياس ورسم هذه الآثار. من المحتمل أن بونابرت كانت لديه أطماع استعمارية، إلا أن التنقيب عن الآثار ودراسة عادات المصريين وموسيقاهم ومعتقداتهم هو حقل علمي ومعرفي اختصت به أوروبا وثقافتها التي من صفاتها حب الاستطلاع والاكتشاف.
ولا يمكن أن نعتبر أن دارس أدب يمضي سنوات من عمره في تحقيق «ديوان المتنبي» وكتاب «الحيوان» للجاحظ أو «تاريخ المسعودي»، يقوم بذلك لأغراض استعمارية بحت، فضلاً عن أولئك الذين تركوا مؤلفات عن الحضارة الإسلامية والعلوم الإسلامية. وحتى ستينيات القرن العشرين، كان مستشرقون وبمعنى أدق مستعربون يقدمون دراسات قيّمة عن الحضارة واللغة والتاريخ المتصل بالعرب والإسلام، قبل أن تتفشى موجة من التعصّب التي لم يكن للمستعربين دور فيها. ويمكننا أيضاً أن نقدّر جهود أولئك الذين أبدوا من الدأب والمثابرة من أجل الكشف عن مخطوط وتحقيقه أو التنقيب عن أثر. والأمر الذي لا نشير إليه عادة ويفوتنا ذكره، أنّ الدراسات الاستشراقية في المجالات المتعددة، يعكس أيضاً كسلنا في دراسة تراثنا المخطوط والكشف عنه وتحقيقه، وافتقارنا لروح المبادرة وقلّة صبرنا على التبحّر وتأخر معاهدنا وجامعاتنا.

هل الكتابة التاريخية استطاعت أن تقدم صورة من السياقات الاجتماعية والسياسية، أم أن الأنثروبولوجيا أكثر قدرة على الإحاطة بذلك؟
- بالرغم من التطورات التي طرأت على كتابة التاريخ منذ مطلع القرن العشرين، تحديداً مع مدرسة الحوليات الفرنسية التي شرّعت الكتابة التاريخية أمام المقاربات الاقتصادية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، إلا أن كتابة التاريخ مخاطرة كبرى، خصوصاً حين يبدأ المؤرخ عادة بطرح فرضيات ورؤى يريد أن يثبتها. لهذا يشبّه بعض النقاد الكتابة التاريخية بالإنشاء الروائي، أكثر مما هي عمل خاضع لشروط علمية. وينبغي أن نلاحظ أن ازدهار الكتابة ترافق مع نشوء الدولة القومية في أوروبا. ورأينا كيف استُخدم التاريخ لتبرير وجهات نظر لدعم اتجاهات أيديولوجية، إذا لم نقل عنصرية، ومن حسن الحظ أن أغلب هذه الأعمال قد أُهملت ودخلت طي النسيان. وينطبق ذلك على الكتابة التاريخية العربية، التي تأثرت بمناهج الكتابة التاريخية لدعم اتجاهات أيديولوجية وسياسية من نوع كتابة السرديات الوطنية والقومية. وزادت في الأمر الاكتشافات الأثرية التي استخدمت لتقديم سرديات تأخذنا إلى ما قبل ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف سنة لتبرير وقائع حديثة.

روايات نجيب محفوظ سجل على المجتمع المصري خلال فترة تمتّد من الخمسينيات وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين


ومن هنا يمكن القول إن هذا النوع من التاريخ العربي، ينتمي إلى ما يسمى بالحقبات الطويلة أو أشبه بالروايات التي تبنى فيها آراء ومواقف بناءً على وقائع محدودة ومنفصلة ومتباعدة في الزمن.
مع ذلك، لا بدّ من التأكيد بأن أعمالاً جادة هنا وهناك تحاول أن تتفادى هذه الأعطاب المحيطة بالتاريخ وكتابته. في هذا المجال، يمكن الإشارة إلى الأنثروبولوجيا التي انتقلت طرائقها ومنهجياتها إلى الكتابة التاريخية حتى تثبت أنها قادرة على استيعاب نتائج أبحاث تدور في مجالات بحثية مستقلة كالاقتصاد والاجتماع. وأعتقد أن ما درج قبل بضعة عقود من التركيز على كتابة ما يسمّى بالحياة اليومية في روما في عصر أغسطس على سبيل المثال، هو مثال لهذا النوع من انتقال الحساسية الأنثروبولوجية إلى مجال التاريخ. وما يمكن قوله إنّ الأمور التي كان المؤرخ الكلاسيكي يهملها، دخلت اليوم في صلب الكتابة التاريخية. وأحد أولئك الذين استخدموا الأنتروبولوجيا هو الفرنسي جاك لوغوف، وله كتاب بعنوان: «الأنتروبولوجيا التاريخية»، وقد عمل خلال حياته على تقديم فهم جديد للعصور الوسطى الأوروبية.
ما أريد أن أذكره هنا، على سبيل إعادة الاعتبار لأعمال المؤرخين العرب السابقين لعصر الحداثة، أمثال الجبرتي في مصر وابن أبي ضياف في تونس وغيرهم ممن سبقهم أن الكتابة لديهم، وإن كانت تنطلق من مقدمات دينية، إلا أنها كانت قليلة الحمولات الأيديولوجية، ويمكن كشف تحيزاتها بسهولة، إلا أن كتاب مثل «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للجبرتي، هو منجم من المعطيات خصوصاً في الفترة التي كان شاهداً عليها، فهو يقدم لنا صورة عن مجتمع متحرك من أوجهه المختلفة. حياة التجار والعلماء والنساء والخصومات والتحالفات، بمعنى أن علينا أن نعيد النظر بهذه الأعمال ليس باعتبارها مصدراً للمعلومات الأولية التي يُعاد تدويرها، ولكن باعتبارها تواريخ قائمة بذاتها.

أخيراً، وطالما تحدثنا عن كتابة التاريخ، وبما أنك نشرت رواية تُصنّف في باب التاريخ، وهي «حكاية فيصل»، هل يمكن أن تنقل إلى القارئ تجربتك في هذا المجال؟
ـــــ من حيث تأسيس الرواية، فإنني اعتمدت على أعمال وكتب تدخل في باب التاريخ بما في ذلك المذكرات الشخصية. حرصت على التقيّد بالوقائع من دون أن أجمح في خيالي. لكن الأمر المختلف هو اللغة التي تستخدمها وكيفية توظيف الوقائع مع التركيز إذا جاز التعبير على الجوانب الإنسانية. وأعتقد أن بعض الأعمال الأدبية والروائية مثل: «مذكرات أدريان» لمرغريت يورسنار أو «الجنرال في متاهته» و«مائة عام من العزلة» لماركيز هي أعمال روائية وتاريخية في آن. صحيح أن الخيال الأدبي قد استُخدم في هذه الأعمال على نطاق واسع، إلا أن ما لفتني، في «الجنرال في متاهته» أنّ المؤلف وضع في نهايته بعض الملاحظات حول بعض الأخطاء التاريخية التي ارتكبها، كأنه بذلك يريد أن يعتذر عن هذه الأخطاء التي تزوّر التاريخ.
ويمكن أن أقول إنّ كل رواية أقرب ما تكون إلى كتابة التاريخ، وخصوصاً مع مرور الزمن. يمكن اليوم أن ننظر إلى روايات نجيب محفوظ باعتبارها سجلاً على المجتمع المصري خلال فترة تمتّد من الخمسينيات وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين. وبطبيعة الحال، فإن خصوصية الرواية تنهض على لغتها وأسلوبها. نعلم أن الرواية الحديثة قد وُلدت في القرن التاسع عشر. مع ذلك، فإن الرواية قد توسعت لتشمل الرواية البوليسية والنفسية البوليسية... وقد تطور أسلوبها. كانت في القرن التاسع عشر أقرب إلى المسرح حيث أبطال الرواية يتحدثون ويطيلون الحوار. أما الرواية اليوم، فقد تأثرت بالصورة السينمائية مع اختصار الحوارات، وتماسك الحبكة. وهذه القرابة بين الرواية والسينما سمحت بنقل أعمال روائية لا تحصى إلى عالم السينما.



رحلة (فكريّة) في عوالمه
يشغل خالد زيادة (1952) مكانة بارزة داخل التأليف العربي المعاصر. قاده حسّه النقدي إلى الانخراط في قضايا تاريخيّة تطاول المنظومة الفكرية العربية. قد يبدو للقارئ أنّ كتاباته تتّسم بالتنوّع على مُستوى المواضيع الفكريّة والسياقات التاريخيّة. لكنْ إذا صوّب الرؤية قليلاً، سيكتشف أنّها تحفر في مجالاتٍ غير مُفكّر فيها داخل التأليف العربيّ المعاصر وتتعلّق أساساً بحرفة الكتابة في علاقتها بالسلطة خلال العصر الوسيط، وعلاقة المسلمين بالحداثة الأوروبية، وكيفيّة تلقّي صدمة الحداثة وتمثلات الآخر في الوجدان الإسلاميّ. بهذه الموضوعات، يحاول إبراز العلاقات الدبلوماسية والسياسيّة والثقافيّة التي طبعت العالم الإسلامي بنظيره الغربيّ. ذلك أنّ مؤلّفات من قبيل: «الكاتب والسلطان» و«المسلمون والحداثة الأوروبية» و«الخسيس والنفيس» و«المدينة العربيّة والحداثة» تتّخذ من المنهج التاريخي أساساً لها ومن الهاجس الفكري نسقاً في التفكير، ومن التاريخ العربي الإسلاميّ أرضيّة خصبة للاشتغال، وتوطيد نوعٍ من الفكر التاريخيّ الذي يربط تبلور الفكرة/ القضيّة/ الواقع/ الظاهرة بأحداثٍ تاريخيّة من خلال العودة إلى سياقاتٍ محددة. وإذا كان ابن مدينة طرابلس، قد حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1980، فإنّ ذلك لم يكُن عاملاً له حتّى ينسى تاريخه وثقافته وذاكرته العربية الإسلامية. ظلّ زيادة حريصاً على تتبّع المسارات الجريحة والمُؤثّرات الخفيّة التي وسمت تاريخ العلاقة بين المسلمين والغرب.
يُعتبر كتابه الجديد «حوارات في الثقافة والتاريخ» (الريس ـــ 2022) مناسبة للتّعرف إلى عوالم خالد زيادة. العمل عبارة عن حوارات معرفية مُطوّلة أسهم فيها العديد من الكتّاب والنقّاد العرب، ممن يُتابعون إنتاج زيادة الفكري وخلق نقاش فكري معه حول موضوعات مختلفةٍ مثل: مصادر النظرة الإسلامية إلى أوروبا، والسجلّات الشرعية، وحرفة الفقهاء، والمثقفين وعلاقتهم بالسلطة السياسيّة، إضافة إلى ثيماتٍ أخرى ترتبط بالهاجس الفكري المتمثّل في الشعبوية والليبرالية والنظم الأُحادية وحكم الشرع وثورة الإصلاح الديني ومفهوم الدولة، وصولاً إلى جماليّات المدينة العربيّة وطرق وكيفيات تمثلها لمفهوم الحداثة المعمارية داخل العالم الإسلامي.