1- الطريق المهجورلماذا لم يشكّل ديوان «لزوم ما لا يلزم» بالنسبة إلى شعراء عصر أبي العلاء المعري وما بعده نموذجاً يُحتذى، وطريقاً مختلفاً يمكن السير فيه؟ لماذا ظلّ ثمرة غريبة لم يجرؤ أحد على التقاطها؟ لماذا لم يتحول كسره لعمود الشعر العربي إلى ثورة عامة؟ وأقصد بعمود الشعر هنا أغراض الشعر. فعمود الشعر هو أغراضه: المدح والفخر والرثاء والغزل ووصف الإبل والرحلة في الصحراء والبدء بالأطلال أو النسيب، إلخ، لا طريقة نظمه على شطرين كما قد يفهم بعضهم هذه الأيام. فقد ألغى أبو العلاء جميع أغراض الشعر في اللزوميات بضربة واحدة. رمى بها في القمامة. فلماذا لم يتابعه أحد في هذا عملياً؟ لمَ لمْ تلتقط قدم أحد الطريق الذي فتحه لتسير فيه؟
كان أبو العلاء المعري شاعراً كبيراً من يومه. لكنه في البدء كان يقول ما يقوله الشعراء

يبدو لي أن ثلاثة أمور جعلت طريق أبي العلاء طريقاً غير صالح للعبور في ذلك الوقت:
الأول: أن الزمن لم يكن بعدُ مستعداً لمثل هذه الثورة. أقصد أن الشعراء لم يكونوا قادرين، بفعل حقائق الزمن الاقتصادية والاجتماعية، على السير في هذا الطريق. كان عليهم أن يعيشوا، أن يأكلوا خبزتهم، وخبرتهم لن تأتي إلا من المديح. من أجل هذا، كان المديح هو الغرض الأول والأهم في الشعر العربي. كان المديح اقتصاد الشعر واستثماره. ولو لحق شاعر بنهج اللزوميات، لكان عليه أن يكون ابن ملك أو ابن شيخ قبيلة كبيرة مسيطرة. وكانت الغالبية الساحقة من الشعراء من صنف غير هذا. كانوا يأكلون خبزتهم بالمديح، أو بنقيضه: الهجاء. خوف الناس من ألسنتهم كان يدفعهم إلى أن يدفعوا للشعراء. وحين يدفعون يمدحون. لذا فالمديح والهجاء وجها العملة ذاتها. أما أبو العلاء شخصياً، فقد وفّرت له مصادفات الحياة الاقتصادية القدرة على أن يعيش كشاعر بغير مديح، ولو بقدر من الصعوبة. وقد استغلّ هو هذه الحقيقة كي يفتح عوالم شعرية جديدة.
الثاني: أنّ أبا العلاء في الوقت الذي حطّم أساس عمود الشعر، عمد إلى ترسيخ البحور الشعرية، أي الوزن والإيقاع. أكثر من ذلك، لقد ضاعف قيودهما. وعنوان ديوانه «لزوم ما لا يلزم» يعني في الواقع: مضاعفة القيود. ما هو غير ملزم إيقاعياً، أصبح ملزماً على يديه. وقد بدت مضاعفة القيود هذه كما لو أنه جوهر ديوان اللزوميات. نسيت الثورة الحقيقية في داخل الديوان، ثورة تدمير الأغراض الشعرية، وعلقت في الأذهان القيود المضاعفة.
ثالثاً: وزاد الأمر تعقيداً الطابع الفكري للديوان. فقد بدا وكأن الديوان يعادي «الطبع» ويسير مع «الصنعة». بدا صنعة متماسكة لا هوادة فيها، وهو ما جعل من يميل إلى الشعر المطبوع على الأقل غريباً عن طريق أبي العلاء.
لذا، يمكن القول إنّ سلسلة من الحلقات جعلت من طريق أبي العلاء طريقاً خطراً: زمن غير ناضج، قيود إيقاعية مضاعفة، صنعة عالية لا تقرّ بالطبع والمطبوع.
وبسبب هذا كله، فقد تأخرت نتائج ثورة أبي العلاء المعري في الظهور حتى العصور الحديثة جداً. فالشعر العربي الحديث كان جوهرياً موافقاً على إلغاء أبي العلاء لأغراض الشعر العربي القديم. فلم يعد عندنا مدح ولا هجاء ولا نسيب ولا وصف نوق... إلخ. لكنّ الشعر الحديث خالف أبا العلاء في الوزن والإيقاع. فبدل أن يحوّل غير الملزم إلى ملزم، عمد إلى كسر ما هو ملزم: كسر الشطرين، وكسر معهما قيود أبي العلاء المضاعفة الزائدة، ودخلنا في ما يسمى بشعر التفعيلة، ثم في ما بعده.
لذا يمكن القول إنّ كل ما فعله الشعر الحديث هو كسر النقطة التي لم يكسرها أبو العلاء. لقد أكمل ثورته. لذا فالشعر الحديث هو ملحق من ملحقات أبي العلاء، وتعديل ما له. لهذا بدا وكأن الشعر الحديث ثورة في الوزن لا أكثر.

2- المنشقّ الأعظم
كان أبو العلاء المعري شاعراً كبيراً من يومه. لكنه في البدء كان يقول ما يقوله الشعراء. كان شاعراً كبيراً ضمن «نظامهم» الخاص بالكبر والصغر. خذ مثلاً أبياته هذه:
أقول والوحش ترميني بأعينها
والطير تعجب مني كيف لم أطر
لمُشمعلّين كالسيفين تحتهما
مثل القناتين من أينٍ ومن ضمر
في بلدةٍ مثل ظهر الظبي بتُّ بها
كأنني فوق ظهر الظبي من حذر
في هذه الأبيات، يصنع أبو العلاء كما صنع الشعراء قبله. يقوم بالرحلة ذاتها، الرحلة الخطرة في الفيافي، التي يقوم بها الشعراء في شعرهم، أو في شعرهم وفي الواقع أحياناً. فالوحوش الخطرة ترقبه وترميه بأعينها، والطير تدهش منه كيف أنه ثابت لا يهتزّ. وهو يبيت ليله في هذه الرحلة في البيداء قلقاً حذراً كأنه فوق قرنَي ظبي. وهو يفعل كل هذا مع أنه شاعر ضرير لا تصلح له مثل هذه المغامرات. كان أعمى يتصرف كبصير، أي يتصرف وفق التقليد تماماً. صياغة متقنة، وتشابيه جميلة، لكن ما من جديد. فما يقوله رغم متانته لا يختلف جوهرياً عما قاله المتنبّي.
غير أن اللحظة التي كان على أبي العلاء أن ينسحب من لعبة الشعراء سرعان ما حلّت. وحين حلّت، رمى أبو العلاء تقاليدهم، وصنع تقليده الخاص. تقليد الأعمى الذي يعترف بعماه. تقليد المختلف الذي يجعل من اختلافه تقليداً آخر جديداً. وقد أعلن عن انسحابه في مقدمه ديوان «لزوم ما لا يلزم»: «وقد كنت قلت في كلامٍ قديم إنّي رفضت الشعر رفض السَّقْبِ غرْسَه والرأل تريكته». أي رفضت الشعر رفض ولد الناقة لقناع مشيمته، وفرخ النعامة لقشرة بيضته التي غادرها. وهو يؤكد لنا أنه لم يكن بهذا الكلام يقصد ترك الشعر، بل مغادرة تكلّفات الشعراء التي تهدف لتهييج الشعر في دواخلهم، أي عملياً مغادرة تقاليدهم، التي تسمى «أغراض الشعر العربي». فهم، كما يقول: «قد زيّنوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والإبل وأوصاف الخمر، وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب، واحتلبوا أخلاف الفكَر، وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يعانون من حثّ الركائب وقطع المفاوز ومراس الشقاء». وقد غادر أبو العلاء كل هذا. لم تعد المغامرات في الصحراء تهمّه. لم تعد الحرب، صادقة أو موهومة، مطلبه. لم تعد الخيل والإبل ونعوتها شغلته. بل لم يعد بحاجة إلى رواحل ليركبها. فرحلته رحلة في أعماق الذات، وفي أعماق الكون وورطة الإنسان فيه. وإن حصل له أن ركب راحلة، فهي لن تكون إلا راحلة ظالعة متعبة:
إذا راكب نالت به الشأو ناقة
فما أينقي إلاّ الظوالع والحسرى.
المنشق الأعظم هو أبو العلاء. وعماه كان أرضية انشقاقه. لقد أقرّ بهذا العمى، ففتح له ذلك بصيرته الشعرية، التي كانت البصيرة الأعمق في تاريخ الشعر العربي كله.

3- شاعر مسكون بغيره
إذا كان أبو العلاء نفرَ من شعراء عصره ومثالهم، فإنه ما من شاعر عربي حاور في شعره الشعراء الآخرين قبله كما فعل هو. شعره كله حوار مع تراث الشعراء السابقين. إنه رغم غربته عن شعراء عصره، مسكون بالشعراء الآخرين.
وهو حين يحاور شعراء الماضي يعمد، في الغالب، إلى الشعراء الأقل شأناً، أو بشكل أدقّ الأقل شهرة منهم، لكي يحاورهم ويكشف أعماقهم وأساطير حياتهم. وهو يعارضهم ويوسّع مدى أبياتهم ويعطيها مغازيَ لم يفكروا فيها، ربما. واللزوميات، بالذات، مليئة بهذا الحوار المباشر وغير المباشر. لذا لن تستطيع أن تفهم كثيراً من أبيات اللزوميات إذا لم تكن ملمّاً بتاريخ الشعر العربي. وخذ بعض الأمثلة على ذلك. فهناك بيت لقيس بن الخطيم، يقول فيه:
إذا جاء هذا الموت لم يلف حاجةً
بنفسي إلا قد قضيت قضاءها
يحاور أبو العلاء قيساً في هذا البيت قائلاً:
إن كان لم يترك قيس له وطراً
إلا قضاه فما قضيت من وطر
وإذ يمسك أبو العلاء بهذا البيت، فهو يرفعه ليصيّره تعبيراً شاملاً عن الامتلاء والرضا عن النفس، وتعبيراً عن الاكتفاء من الحياة عند قدوم الموت. ثم يعارضه بشعور آخر، شعوره هو، المعبّر عن الخواء والخسران وعدم الرضا. وهو بهذا ينقل الحوار مع ابن الخطيم إلى مستوى فلسفي، لم يفكر فيه الأخير أغلب الظن.
ثم انظر إلى بيت شاعر آخر هو «الثقفي» الذي يقول فيه:
يا رب مثلك في النساء غريرة
بيضاء قد جهّزتها بطلاقِ
إنه مرة أخرى ينتزع هذا البيت من سياقه، ويصعد به إلى الأعلى ليصير فلسفة:
لم ألف كالثقفي بل عرسي هي
السوداء ما جهّزتها بطلاقِ
إنها القضية النقيض تماماً: الأبيض ضد الأسود، الامتلاء في مواجهة الخواء. أما عرس أبي العلاء التي لم يطلقها، فهي الدنيا. فهو يتمسك بها رغم كل مراراتها. وهكذا يحول أبو العلاء بيت الثقفي من بيت يتحدث عن علاقة بين رجل وامرأة إلى قضية فلسفية، هي قضية الإنسان في الكون، أو قضيته مع الموت والحياة.
ثم خذ بيت ضابئ بن الحارث البرجمي، الذي يتحدث فيه عن غربته هو وجمله قيار في المدينة:
فمن يكُ أمسى في المدينة رحله
فإني وقيّارٌ بها لغريب
يحاوره أبو العلاء قائلاً:
كم في المدينة من غريب نازل
لا ضابئ فيهم ولا قيّار
هكذا يمضي أبو العلاء ليحاور الشعر والشعراء قبله مباشرة. أما حواره غير المباشر فيمكن أن نعثر على نماذج منه. مثلاً، يقول طرفة في بيته المعروف في معلقته:
فإن تبغني في حلقة القوم تلقَني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
وهكذا، فمن بغى طرفة وجده في أماكن الفخر، ومن التمسه اصطاده في أماكن اللهو. فهو بين الخمر والفخر. أما أبو العلاء فغير ذلك تماماً. إنه على النقيض من ذلك:
من رامني لم يجدني
إن المنازل غربة
هو ذا: «من رامه لم يجده» في مقابل «إن تبغني تلقني». ومن بغى أبا العلاء لم يلقه. فالوجود أصلاً عدم ولا وجود، ومنازل طرفة هي الغربة ذاتها.
أما حوانيت الخمر، فقد هجرها منذ زمن، رغم أنه يكاد يحنّ إليها: «أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة؟».
ثم خذ بيت طرفة الثاني المعروف:
ولست بحلّال التّلاعِ مخافةً
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
أما أبو العلاء فلا يحلّ «التلاع» والروابي، بل يحل «الوهاد» الخفيضة، في معارضة لطرفة ومناقضته:
وليس بيتي على الروابي
وإنما آلف الوُهودا
يترك لطرفه ولغيره أن يحل التلال والتلاع، أما هو فيتطامن في هذا الكون. يخفض رأسه ويُخفت لهجته.
حوار أبي العلاء حوار معارض ونقيض، يصعد بالعادي إلى الفلسفي. وهو حوار يجري بضربات واضحة دون زيادة ولا زخرف، تحول الواقعي المبتذل إلى فلسفي، والعادي إلى كوني. خذ مثلاً هذا البيت:
لُبت حول الماء من ظمأٍ
إن غربي ما له مـرس
كان يمكن لهذا البيت أن يكون لشاعر آخر. لكنه سيكون حينها وصفاً لرجل عطش يلوب حول الماء ولا حبل لدلوه كي ينشل به الماء. أما هنا، فإنك تحسّ باللوعة الوجودية القاتلة، لوعة الظمأ الذي لا يروى للإنسان في هذا العالم.
* شاعر فلسطيني