بعدها، يحاكي الكتاب/ الورقة البحثية مدى تأثير نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية واندلاع الحرب العراقية الإيرانية على لبنان. يرى أنّ ذلك أدّى إلى «تنامي أصولیّتين، سنّیة وشیعیة، فكانت مواجهـة بـین الإسـلام الشیعي والإسلام السني» في لبنان والمشرق العربي ككلّ. يفهم الصليبي أنّ القضية اللبنانية ليست بمعزلٍ عمّا يحدث خارج لبنان، وأنّ أيّ محاولة للتوصل إلى «تسويتها» بمعزلٍ عن ذلك هي مسألة «شائكة» و«لا يمكن التكهّن بمصيرها» أو المراهنة عليها كي تنجح. يشرح الصليبي في الكتاب أنّ الصراع العربي الإسرائيلي قد أرخى بثقله على القضايا كلّها في الشرق الأوسط، وأنّ أيّ تسوية في المنطقة محكومة بذلك. يفكّك الصورة الكاملة المعقّدة إلى مشاهد عدّة ليمكّن القارئ/ المتابع من إدراكها. فالمشهد اللبناني، ينطلق من طبيعة لبنان السياسية التي شكّلها المحتل الفرنسي، وارتباطه «كمشروع» مسيحي للبنان، وإن كان المسلمون قد ارتضوا المشروع على أنه «وظيفي»، ذلك أن المسلمين اعتبروا أنفسهم جزءاً من أمةٍ عربيةٍ أكثر اتساعاً. هذا الأمر جعل المسيحيين أكثر تمسكاً بحقائبهم ومراكزهم السيادية/ الوزارية والرئاسية، كما بامتيازاتهم؛ فيما «مسلمو لبنان بقوا مستائين من السيطرة المسيحية على النظام السياسي اللبناني، ما حفّزهم على تعطيل سياسة الدولة عند كل منعطف، مساومين على استقلاليّة هذه السياسة لصالح الأحزاب العربية الخارجية، وعادةً بدعم عربي خارجي» بحسب الكتاب.
يميّز الكاتب المجتمع اللبناني عن المجتمعات العربية لجهة الانفتاح والنقاش الحرّ
في الإطار ذاته، يميّز الصليبي المجتمع اللبناني عن المجتمعات العربية (وأنظمتها حكماً) بنقاشه الحر في مسائله الوطنية وغير الوطنية، وهو مجتمع منفتح: «مهما يكن من أمر، وعلى عكس ما هو عليه في العالم العربي، فإنّ القضايا الوطنية والإقليمية، ومهما كانت شائكة أو حساسّة، تبقى على الدوام وتطفو على السطح وتتخذ أشكالها الحقيقية في تحولها إلى مسائل عرضة للنقاش وأحياناً للصراع في مناخ غير منضبط حيث لا حاجة لكلمات متأنّقة» يشير الصليبي في ورقته.
ينطلق الصليبي بعد ذلك إلى شرح تداعيات «تشتّت» الفلسطيني في الدول العربية، ونتائج توقيع اتفاق الهدنة في عام 1949، ثم العدوان الثلاثي على مصر (1956)، ثم حرب عام 1967 (ما يُعرف بالنكسة)، كل هذه الأمور أسهمت في دفع الفلسطينيين إلى «تشكيل أطرهم» و«الإمساك بزمام أمرهم»، وتمسّكهم بهويتهم الوطنية المستقلة وتأسيس منظمة تحريرهم الخاصّة. ولا ينسى الصليبي أن يشير إلى أنَّ الفلسطينيين شكّلوا «طبقة وسطى متألقة متوزّعة على عدة دول عربية ومتقدمة في مهاراتها، فكانوا قدوة ووفّروا لحركتهم قيادةً وبنى تحتية. وفي المقابل كانت هناك الجماهير في مخيمات اللاجئين على أهبة الاستعداد للتطوع في النشاطَين السياسي والعسكري». من هنا كانت التجربة قابلة للنجاح، فضلاً عن أنّها كانت تمتلك الحرية والمقدرة والدعم الشعبي حتى على «زعزعة الدول العربية» نفسها وأنظمتها بالتالي. لم يدم ذلك طويلاً حتى اندلعت المواجهات بين الفلسطينيين من جهة والنظام في الأردن، وحدث ما يُعرف بأحداث أيلول الأسود عام 1970، حيث أدى نجاح فلسطيني سريع «في زعزعة النظام إلا أنّ ذلك أثار حفيظة وطنية جامحة وعنيدة في صفوف سكان شرقي الأردن الأصليين الذين التفوا رأساً حول النظام المهدّد وساعدوه على سحق الثورة في أراضيه». الأمر ذاته تكرّر لكن هذه المرّة على يد جيش الاحتلال الصهيوني في عام 1982 في لبنان، حين «جرى تدمير الثورة الفلسطينية» برضى المسيحيين، تلك الثورة الفلسطينية التي يسميها الصليبي: «ثورة مكثّفة، أصغر حجماً بيد أنّها ذات طاقة أقوى على الأرض». ينطلق الكتاب بعد ذلك صوب شرح تأثير المسائل الإقليمية الحديثة على الداخل اللبناني، والصراعات التي أفضت بشكلٍ أو بآخر إلى ما حدث ويحدث ــ حتى اليوم ـــ في هذا الداخل.
في المحصلة، يضع هذا الكتاب نقاطاً على حروف كثيرة في قضايا شائكة ومعقّدة تجري رحاها حتى اللحظة.