هناك مثل شهير قادم إلينا من الجاهلية يقول: «حَضارٍ والوَزْن مُحْلِفان». و«حضارِ» و«الوزن» نجمان قرينان قرب برج الجوزاء- الجبار يطلعان قبيل «سهيل اليماني» الذي يقع على طرف برج الجوزاء. والمشكلة في المثل تكمن في كلمة «محلفان». فقد فُهمت الكلمة على أنها من الحلف بمعنى القسم واليمين: «قال أَبو عمرو بن العلاء: يقال: طلعت حَضَارِ والوَزْن، وهما كوكبان يَطْلُعانِ قبل سهيل، فإِذا طلع أَحدهما ظُنّ أَنه سهيل للشبه... وهما مُحْلِفانِ عند العرب. سُميا مُحْلِفَيْنِ لاخْتِلافِ الناظرين لهما إِذا طلعا، فيحلف أَحدهما أَنه سهيل، ويحلف الآخر أَنه ليس بسهيل» (لسان العرب). يضيف ابن سيده: «وكل شيء مُحْتَلَفٌ فيه مُحْلِفٌ، لأنه داع إلى الحَلِف. ولذلك قيل حَضار والوزن مُحْلِفان لأنهما نجمان يطلعان قبل سُهيل فيظن النّاس بكل واحد منهما أنه سهيل فيحلف الواحد أنه ذاك ويحلف الآخر أنه ليس به» (ابن سيده، المخصص).إذن فكل واحد من النجمين «محلف» لأنّ الناس حين يرونه يختلفون بشأنه أهو سهيل أم لا، فيتحالفون في ما بينهم بشأنه: هذا يحلف أنه الوزن، وذاك يحلف أنه سهيل. وهذا أمر غريب حقاً. فنحن مع نجمين اثنين لا مع نجم واحد. فكيف يمكن للنجمين المتقاربين معاً أن يختلطا بسهيل؟
لذا أود أن أخالف أبا العلاء بشأن هذا كله، مع أن مخالفة أبي العلاء ليست مزحة أبداً، ولا لعبة صبيان، كما نعلم. فأبو عمرو مرساة لغوية ثقيلة وراسخة. لكن حتى أمثال أبي العلاء يخطئون. وفرضيتي تقوم على أنه حدث تصحيف في كلمة «محلفان» في القول، وأنها في الأصل بالخاء لا بالحاء (مخلفان).

حضار والوزن وسهيل اليماني في مستطيل برتقالي. وأسفلهما سهيل اليماني في مستطيل آخر. والصورة من موقع خالد بن عبد الله العجاجي (أبهى المواكب في شرح أرجوزة الكواكب)، المخصّص لشرح أرجوزة الكواكب لعبد الرحمن الصوفي


يؤيد هذا أن هناك مثلاً آخر له علاقة بالوزن يقول: «أخلفك الوز، وسهيل لا يُرى» (الميداني، مجمع الأمثال). أي أننا مع الجذر «خلف» لا مع «حلف». بناءً عليه، يمكن الافتراض أن حضار والوزن الوزن مُخْلفان لا مُحلفان. ومع أن الكل يعرف المثل الثاني، وأنه يتحدث عن الإخلاف لا الحلفان، فإن وجوده لم يؤثر على فهم المثل السابق. بل ظل الكل يتحدث عن سهيل والوزن باعتبارهما محلفين لا مخلفين:
«أخلفك الوزن وسهل لا يرى: الوزن، نجم يطلع من مطلع سهيل يشبه سهيلاً في الضوء. وكذلك حضار، مثل قطام، يقال حضار والوزن محلفان. وذلك أن كل واحد منهما يظن أنه سهيل فيحمل كل من رآه على الحلف أنه هو بعينه. وسهل تكبير سهيل. يضرب [المثل] لمن علّق رجاءه برجلين ثم لا يفيان بما أمل» (الميداني، مجمع الأمثال).
وكما نرى فالميداني يعتقد أن الإخلاف في المثل الثاني يعني عدم صدق الوعد: «يقال: أَخْلَفه ما وَعَده، وهو أَن يقول شيئاً ولا يفْعَله على الاستقبال» (لسان العرب). والحقيقة أن هذا فهم خاطئ جذرياً للمثل الثاني أيضاً، وليس للمثل الأول فقط. ويتضح ذلك من أمرين اثنين:
أولاً: أن الوزن لا يشابه سهيلاً في الضوء. فضوء سهيل أقوى بكثير من ضوء الوزن. ولا يوجد في منطقة برج الجوزاء ما يعادل ضوء سهيل سوى ضوء نجمة الشعرى اليمانية.
ثانياً: إن الإخلاف في المثل الثاني هو استبدال شيء لشيء، وحلوله محله، وليس من إخلاف الوعد، أي عدم برّه وتنفيذه: «يقال: بئسَ الخَلَفُ هُمْ، أَي: بئس البَدَلُ» (لسان العرب). وما زلنا نقول بالعامية: «أخلف الله عليك»، بمعنى عوضك الله، وأبدلك. وفي القواميس: «اسْتَخْلَفَ فلاناً من فلان: جعله مكانه. وخَلَفَ فلان فلاناً إذا كان خَلِيفَتَه. يقال: خَلَفه في قومه خِلافةً. وفي التنزيل العزيز: وقال موسى لأَخِيه هرون اخْلُفْني في قَوْمي» (لسان العرب).
بناءً عليه فالوزن مخلف، بمعنى بديل، لا بمعنى ناكث الوعد، فليس هناك وعود ليخلفها. كما أنه مخلف وليس محلفاً بالحاء. وحضار أيضاً مخلفة مثلها مثل الوزن. أي أنهما معاً مخلفان. وانطلاقاً من هذا يمكن بسهولة فهم المثل «أخلفك الوزن وسهيل لا يرى». ذلك أنّ سهيلاً في بدء طلوعه قد يخفى عن الأعين. فهو يكون لحظتها عند خط الأفق، وهو ما قد يجعل العين غير قادرة على التقاطه.
سهيل كما هو معروف هو نجم التوقيت المركزي في جنوب السماء


ولأن الأمر كذلك، فإنه يجري الاستناد إلى نجمَي الوزن وحضار كنجمَي توقيت وهداية كبديل مؤقت عن سهيل اليماني. فهما يكونان فوق خط الأفق وقت طلوع سهيل، وتسهل رؤيتهما، رغم أنهما أضعف إضاءة من سهيل اليماني.
وسهيل كما هو معروف هو نجم التوقيت المركزي في جنوب السماء. إنه يلعب، بشكل ما، دور نجم القطب الجنوبي في مقابل نجم القطب الشمالي. بالتالي، فالتعرف إلى وقت طلوعه مسألة حاسمة جداً للسفر البري والبحري. وحين تفتقده العين، تلتجئ العين إلى قرينَيه اللذين يطلعان قبيله: حضار والوزن. فطلوعهما دليل على أن سهيلاً هناك، حتى لو لم تره الأعين. أو أنه على وشك أن يكون هناك. لقد طلع أو هو على وشك الطلوع. من أجل قال المثل بالحرف: «وسهيل لا يُرى». فحضار والوزن أخلفا سهيلاً، واستبدلاه، لأنّ «سهيلاً لا يرى». بذا فهما «مخلفان» لأنهما يخلفان سهيلاً، أي يحلان محله عند الضرورة كنجمَي توقيت وهداية.
بناءً عليه، فليسمح لنا أبو عمرو بن العلاء، فليس هناك حلف ولا قسم. فالمثل يقول: «حضار والوزن مخلفان»، بالخاء لا بالحاء، أي يستبدلان سهيلاً ويحلان محله إن لم تلتقطه الأعين.
ويبدو أن هناك في الواقع أكثر من نجم قرب برج الجوزاء كان يخلف سهيلاً ويستبدله. دليل ذلك أن لدينا، كما نرى في الصورة أعلاه، عدة نجوم تتسمّى باسم سهيل: سهيل حضار، سهيل الوزن، سهيل رقاش، وسهيل بلقين. كل هذه النجوم كانت في ما يبدو لي تخلف سهيلاً وتحل محله في التوقيت في بعض اللحظات.
وبجملة أخيرة، فإن الوزن يحل محل سهيل. إنه بديل سهيل. بالتالي، فهو يصير نجم القطب الجنوبي في لحظات محدّدة. وقد عثرت على نقش جاهلي قبل الإسلام، مكتوب بأبجدية المسند الشمالي، لا بالأبجدية العربية الحالية، يجعل الوزن لا سهيلاً نجم التوقيت المركزي. وهو ما قد يعني أنّ سهيلاً قد يكون حل محل الوزن في وقت متأخر. وإن صح هذا يكون الوزن هو النجم الأساسي في جنوب السماء. بذا فهو نظير نجم السها في شمال السماء. وسوف أكتب عن هذا النقش لاحقاً.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا