«وحدة الإنسان الوجودية، وحدة لا تعني إطلاقاً أنّه يعيش فريداً، بل هي أعمق من ذلك، وحدة موجودة دائماً ومن الممكن أن نجدها في الاجتماع»، يقول عباس بيضون، الشاعر اللبناني صاحب الجملة الشهيرة «أعيش محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً»، التي صارت عنواناً متداولاً لقاموس الاغتراب وأحوال الوحدة التي يعيشها الشاعر على حافة القلق والأسئلة الكبرى، حاملاً النار العظيمة المسروقة من الآلهة، حيث لسان حال الشاعر كما يقول أدونيس: «أمضي إلى البعيد والبعيد يبقى، هكذا لا أصل ولكني أضيء». في أيار (مايو) الماضي، بلغ صاحب «قصيدة صور» و«الموت يأخذ مقاساتنا» و«خريف البراءة» الخامسة والسبعين... عمر جلّه في الشعر، إذ لا يمكننا أن نتخيل عباس بيضون إلا شاعراً، هو الذي يقول إنه كلما افتقد الشعر، عاد إليه هذا الأخير كمرض مزمن. حول الشعر والحياة والرسم والفن، وكتابه الشعري الأخير «الحِداد لا يحمل تاجاً» (دار الساقي)، كان هذا الحديث مع بيضون الذي يرفع بمقام الشعر إلى رتبة أعلى من اللغة والموت، الى ما يبثّ في الكلمة سرّها ويصل إلى حدّ الأسطورة. تحية لعباس بيضون من «كلمات» في عيد ميلاده الخامس والسبعين، رغم الألم الذي تعيشه البلاد في برّها وبحرها وهوائها وإنسانها، فالشاعر وحده قادر على أن يعيد للأقانيم تلك، سيرتها الأولى من الحب والألق.
هل يمكننا أن نحدد مساحات الافتراق والجمع بين الشعر والموت؟
ـــــ يخيّل إليّ أنّ الشعر لا يتكلّم عن شيءٍ بقدر ما يتكلّم عن الموت، فالموت بالنسبة إلى الشاعر هو إعادة الأمور واللغة إلى أصالتها، والعمل الشعري بهذا المعنى هو صناعة أسطورةٍ من داخلِ اللغة. هذه الأسطورة هي في الغالب تداولٌ بين الحياة والموت وأغنية تتغنّى بالأخير. الموت حين يصيبنا في أصدقائنا وأقربائنا هو المعنى الجيولوجي والنفسي للكلمة وما يصاحبهما من طقوس خاصة. هو انفصال وافتراق وفي الوقت عينه نفي للشخص. غير أن الموت في الشعر دائماً ما يترقّى على نفسه بتحوّله إلى أسطورة لدى الشاعر وملحمة عن النزاع بينه وبين الحياة. هنا يتفوّق الشعر على اللغة والموت على القصيدة، ويصبح سرّاً من أسرار اللغة وأسطورة بمعنى آخر.

هل الفهم يصيب من الشعر مقتلاً؟ وهل يكمن خلود الشعر في أسراره؟
ـــ لا نستطيع أن ندعو إلى فهم الشعر، والشاعر هو أول من لا يفهم شعره. غير أنّني لا أستطيع أن أرفض الشعر بأيّ طريقةٍ كانت، فهو عادةً من يدافع عن نفسه ويتكلّم عنها. لا أستطيع رفض أيّ نوعٍ من الشعر، لكنّني أقول إن الشعر كلّما بدا صارخاً أو ناطقاً أكثر مما يجب، خان نفسه، فالشعر لا يتكلّم أكثر مما يجب بل أقلّ من ذلك. الشعر هو ما نراه من جبل الثلج فوق الماء، السر فقط هو من يظهر وحده.

لا يليق الفرح بالشعر كما يليق به الحِداد، ما رأيك؟
ـــ لا أستطيع أن أتخيّل كتابة فرحة في أيّ لغة كانت، حتى نيرودا حين نستشفّ الفرح في شعره فبسبب أنّه كان مناضلاً، وأسوأ ما كتبه هو شعره النضالي. بشكلٍ عام، من الصعب إيجاد شعرٍ فَرِح أو شعر متفائل، أظنّ أن الفنّ بكلّ أشكاله يحملُ وجوهاً تشاؤميّة أكثر لأنّنا كلّما ذهبنا عميقاً في العالم وقعنا على التشاؤم. أظنّ أنّ الشعر هو فنّ سلبي، هو فنّ نفيّ وليس فنّ إثبات، هو يتداول مع العالم وكأنّ الأخير لم يولد بعد، تحديداً حين يتكلّم الشاعر بحيث إنّه يتكلّم ضدّ العالم والكون، هو كلامٌ يخرجُ أولاً وأخيراً من السلب، وهو عودةٌ مستحيلةٌ إلى الأصالة، فاللغة بكلّ تاريخها وتراثها تعود إلى طفولتها وأوّليّتها، والشعر ادّعاء لهذا المعنى بحيث إنّه يدعي العودة إلى طفولة اللغة، اللغة قبل أن تكون أو كما ينبغي أن تكون.

ماذا عن علاقة الشعر بالصمت؟ هل الصمت جزء من المعنى؟
ـــ أنظرُ إلى الشعر على أنّه «تسرير» للكلمات، أي تحويلها إلى سرّ، أستطيع القول إن الشعر كمّ صامت، ولو لم يبدُ كذلك، هو محاولة للوصول إلى أصلٍ ما في اللغة، هذا الأصل لا يمكن أن يكون متكاملاً إلا إذا كان صمتاً موارباً، نحن لا نستطيع أن نجد في الشعر معنى أكبر من ذلك، فالمعنى فيه هو هذا المعنى الصامت، الصمت المتحوّل إلى كلمات.

على أي ذاكرة تتوكّأ في شعرك؟ وما هي علاقتك بالفن التشكيلي، خاصة أنك خصصت تجربة الرسام حسين ماضي بكتاب كامل؟
ــــ ذاكرتي البصريّة تدخل في شعري كما تتدخل كلّ أنواع الذاكرة، لا أعرف بأيّ طريقةٍ يمكن للبصرِ أن يدخل فيها إلى الشعر، غير أنّه موجودٌ في الشعر وأنّ ما نجده دائماً نجده بطريقةٍ أو بأخرى، وهو من أسرار الشعر الذي يحوي ذاك الوجود البصري الذي لا يتبلور ولا يكتمل ولا يتحوّل إلى وجود حسي نهائي، هذا الوجود البصري يداعبنا. لم أحسب نفسي يوماً ناقداً تشكيلياً، كلّ ما في الأمر أنّني شخصٌ يحب الفن التشكيلي والتصوير، والتصوير بالنسبة إليّ أحد مصادري الروحية، وأسعى أحياناً لأعبّر عن لحظة من لحظات معرفة تشكيل اللغة. وفي تناولي للتشكيل، أبقى شاعراً وكاتباً ولا أتحول إلى محترف نقد تشكيلي. والفن التشكيلي كالشعر، يملك سرّه وينبغي التكلّم عنه كتسرير للأشياء التي نراها في اللوحة، والتي هي أسرار هذه الأشياء، هي الوجود المجاني والعرضي لها.

متى بدأت علاقتك بالرسم؟ وهل تهمك النظريات الفنية والنقدية في تناول الفن؟
ــــ ينبغي العودة قليلاً إلى علاقتي بالفن التشكيلي التي كانت موجودة منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري، والفن التشكيلي بالنسبة إليّ مورد روحي لا أزال أسعى وراءه. ما جعلني أذهب إليه هو مقالة في مجلة «العربي» عن غوغان. كانت مزدانة بلوحاته، هذه اللوحات صدمتني لأنني رأيت وجوهاً وفقهاً للّون غير الذي أعرفه. منذ ذلك الحين وأنا أتابع الفن التشكيلي. أما عن النظريات المدرسية التي يشاع بأنّها أضرّت بتناول الفن، فلا أظن ذلك، ولا أعرف إن كان هناك نقد يستحق هذا الاسم عند العرب. هذه المعضلة نابعة من مشكلتنا مع النقد الذي هو عملٌ ثقافي وليس شعوراً وإحساساً فقط. قد يكون امتناع العرب عن ممارسة النقد لخوفهم من النيل من المقدس، لكنه بشكلٍ عام عمل ثقافي نفتقده.

كيف تصف ظروف ولادة مجموعتك الشعرية الأخيرة «الحِداد لا يحمل تاجاً»؟
ـــ ولدت هذه المجموعة في ظروفٍ لم أستطع اللحاق بها والتعرف إليها. كنت أكتب رواية وفي داخلها بدأ الشعر يعاودني بطريقةٍ غريبة بحيث إنّني أمسكت كتاب شعرٍ مترجم، وجدت أن الشعر شيء أملكه وما زال داخلي بعدما ظننت أنّه اختفى، أو أنّني تجاوزته أو هو تجاوزني. لكن حينما قرأت تلك الأشعار، وجدته يعاودني كمرضٍ مزمن، ووجدت أنّني أكتب بقدرٍ من السهولة غير المتوقعة، أي بتلقائية، هذه المجموعة كتبتها في وقتٍ قصيرٍ نسبياً. فحينما أكتب مجموعة شعرية، أكتبها دفعة واحدة، أي قصيدة طويلة موزّعة على عناوين.

«كم بقي لك لتسهر على تفاحاتك/ لتكلمها على عمق ستين عاماً/ كم بقي لك لتجرها الى حفرة». هل نحن أمام نفي للشعر ورثاء للكلمات نفسها التي هي «قمح الموتى» كما تقول في قصيدة «جنينة آدم»؟
ـــ أنت اخترت مقطعاً شخصياً إلى حدّ ما وليس عامّاً، فأنا لا أتكلم بشكلٍ عام، بل عن نفسي وعائلتي التي تتناقص باستمرار وتخسر باستمرار، عن هذه العائلة التي تمثلها أختي، التي كان موتها إنذاراً شخصياً لنا جميعاً، موتها موتنا. والمفارقة أنّ هذه الأسطر ليس فيها نفي للهوية، فليس هناك من شيء جماعي فيها لشدة خصوصيّتها. والنفي هنا هو نفي شبه عائلي. علاقتي مع شقيقتي كانت محدودة بالزمن والمكان، هي تزوّجت باكراً وانتقلت إلى السعوديّة ثمّ إلى الأردن. وفي هذا البعد المكاني والزماني كانت علاقتنا من الأسرار (موجودة قبل العلاقة) كأنها بقيت أمام العلاقة، كانت ماضياً ومستقبلاً مخترعين، وأظنّ أنّني كنت أرى موت أختي قبل موتها. فقبيل وفاتها تحدّبت وامتلأت، كنت أقول إنها فقدت علاقتها بالحياة، فهي كانت تحملُ جسداً لا تطيقه، وتعيش حياة لا تفهمها، وتتوقع بشكل أو بآخر دائماً ما لا يسرّ.

هل الشعر نوع من اليوتوبيا التي لا يمكننا العيش بدونها؟
ــ الشاعر خالق لأسطورة، والموت والحياة المتداولان دائماً في الشعر هما جناحا الأسطورة. ومما أريد قوله ليس هناك شعبٌ ما قادرٌ على العيش من دون يوتوبيا. لكن هذه اليوتوبيا قد تكون رخيصة جداً ومتاحة وسهلة. يمكن أن نخلق يوتوبيا ضجراً من العالم والوجود ونعيش العالم كيوتوبيا لأننا لا نعرف كيفية العيش فيه. أظّن أن اليوتوبيا، خاصة لدى شعبنا، نوع من فضيحة عامة.

في المجموعة الأخيرة قصيدة بعنوان «الكردي الصغير»، ما خصوصية هذا النص؟
ــ اخترت من بين الكوارث المنصبّة على العالم العربي شعوري تجاه الأكراد بأنهم رهن انحدارٍ وسقوط، وأنهم بشكلٍ أو بآخر موجودون وحاضرون بالرغم منهم. يملكون وحدهم بين شعوب هذه المنطقة سرّهم الخاص، كأنهم مولودون من تاريخ لم يولد ولا يتوقّف. وبهذا المعنى كان الأكراد سابقين وجودهم وسابقين مكان تواجدهم. لا أظن أنّ هناك قابلية لإعادة اندماجهم بالعرب لكن معظم الأكراد الذين أعرفهم يتقنون العربية، هم بشكلٍ أو بآخر عرب من دون إرادتهم، ومن منطقةٍ لا يعرفون حدودها مفتّتة وموزّعة منذ عشرات السنين، كما أنّهم يملكون وجودهم فقط كسِرّ وحياتهم كاحتمال.

«أعيش محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً»، استناداً إلى هذا الإعلان، هل يكون الشعر توأم الوحدة والعزلة؟
ـــ ليس هناك من أي شرط ملازم للشعر، فالشعر خارج الشروط. أما هذه الجملة التي ذكرتها فهي محاولة للبحث عن سر اللغة، عن سرّ الوجود، عن سرّ أنفسنا، فيما إحاطتي بمن يشعرونني بالوحدة، فهي لأنّني هنا أتكلم عن الوحدة بشكلٍ عام وليس عن الوحدة في الشعر، فهي وحدة الإنسان الوجودية. وحدة لا تعني إطلاقاً أنّه يعيش فريداً، بل هي أعمق من ذلك، وحدة موجودة دائماً ومن الممكن أن نجدها في الاجتماع، وفي مدار الوحدة نرى كثرة وجمهوراً وأشخاصاً ولا ينقذنا هذا الشعور من الوحدة، الجمهور هو أيضاً وحيد.
الفنّ بأشكاله كافّة يحملُ وجوهاً تشاؤميّة أكثر، لأنّنا كلّما ذهبنا عميقاً في العالم وقعنا على التشاؤم



هل الشعر فن سمعي ـ بصري؟ وهل يمكن لقصيدة أن تكون تجريدية بالكامل؟
ـــ في كلّ قصيدة حكاية بصرية تحتوي على شيء من البصر. هناك قصائد نجد الحضور البصري فيها أكثر من قصائد أخرى، ولكن هذا ليس شرطاً لها بأن يكون الشعر بصرياً بهذا المعنى، أي أنّ البصَريّ يوجد على غير الطريقة التي نتوقّعها، في ثنايا الكلام والأشياء. هناك كلام قوته الصوتية والبصرية تبدو كأنّها سرّه. أما الشعر التجريدي، فأراه درجة من التطوّر الثقافي، لكنّني لا أعرف إذا كان متداولاً أو فيه الكثير من الشعر.

هل يعيننا الشعر على تقبل الحياة كخسارة بروح رياضية أم كفضيحة؟ وهل يحتمل تحميله المآسي الجماعية؟
ـــ تقبل الحياة كخسارة بروح رياضية ممكن. لا أدري إذا كان الشعر قادراً على التحوّل إلى فضيحة لقبول العالم والاحتفاء به والتهويل به، هذا بالنسبة إليّ يهدد الشعر. الشعر مهدَّد حين لا يأخذ كفايته من الصمت، حين لا يكون صمتاً ناطقاً. أظنّ أنّ الشعر الذي ليس مجانياً وله تحديداتٌ معينة، هو في ضيقٍ من ذاته ومن نفسه ولم يكتمل كشعر. لكن الشعر ليس دائماً كتابةً حميمية وليس عملاً إفرادياً على الإطلاق، بل ليس غناءً شخصياً، هو مجانية بكل معناها، هو ليس عرضاً شخصياً بل هو ما يتجاوز الشاعر حتى يكاد الأخير يكون غير متواجد. الشاعر ليس ناقلاً للوحي كالأنبياء لكنّه صوت اللغة التي تتكلّم في الشعر وتحاول داخله العودة إلى أصالتها وطفولتها ومكانها الأول.

ما هي علاقتك بمفاهيم الهوية والوطن والحنين والهجرة؟ تقول: «لا أفهم الحنين، أخجل به كمرض»...
ـــ لا أستطيع أن أشرح لماذا يشكل الحنين حالة مرضية، لكن يمكنني التكلم بشكلٍ أو بآخر عن نفسي، علاقتي بالأشياء وبالبلاد وبالأماكن هي علاقة شديدة الوطأة ومنهكة جداً، بحيث إنّني لا أستطيع بسهولةٍ المغادرة إلى بلد آخر، فحينما يتحدثون عن الخروج، فهذا يرهقني. أنا موجود في بلدي ولست قادراً على فلسفة علاقتي به، بصراحة لا أستطيع تسميته هوية والتزاماً، لكنّ هناك شيئاً فرويدياً في هذا المكان، شيئاً من الأمومة القائمة في وجودك في البلد، في المكان وفي العائلة، هناك شيء من العقدة التي تسيطر عليك، فلا تستطيع الخروج والمغادرة وترك عائلتك وبلدك أو نفسك. لا أعرف إن كان صحيحاً تسمية هذا بالهوية لكن أيضاً الهوية لا تعنيني كثيراً، فأحس بأن هذه الهوية ليست سوى هذا الحنين اللاعقلاني الذي يربطنا بالأماكن ويقيدنا بها من دون استطاعتنا الخروج عنها.

هل يختار القدر الشاعر؟ وهل الأقدار الجماعية تجبر الشاعر على الدخول في السياسة طائعاً أو مكرهاً؟ وماذا عن علاقة الشعر بالألم؟
ـــ لا أستطيع القول إن الشعر هو قدر، فكلمة قدر مهولة بالنسبة إليّ وفوق إدراكي. فكل هذا الوجود المسبق والحكم عليه والتناول الأسطوري له يخيفني. ولمّا أتكلم عن القدر، أتكلم عن مصائر مهلكة ومنهكة. القدر لا يأتي بشكلٍ جميلٍ ولو لمرة واحدة، سواء أكان شخصياً أم جماعياً. والأخير يبدو بالنسبة إليّ أكثر غموضاً. لكن يمكننا التكلم عن القدر بوصفه جزءاً من أسطورة الكون، أو الوجه الآخر لها، فبهِ يتحول الكون إلى أسطورة ونحن نستدعيه لئلا يبقى للوجود أيّ معنى أو حقيقة ثابتة. أما الأقدار الجماعية، فهي شيء يحيلني إلى السجال السياسي في البلد. القدر بالنسبة إليّ ليس سوى هذا الوجود غير الحقيقي داخل العالم. الألم حسب ظنّي هو أصل الوجود تقريباً، وهو موجود حيث لا يمكن أن نتخيل، موجود حيثما كان وبدرجة أكبر في ما نسميه تسليةً أو لعباً أو فرحاً. نحن نتألّم أولاً والألم يعطي معنى لوجودنا. أما في ما يُعد ألماً جماعياً، فهو لا يهمني لأنني أراه ألماً استعراضياً. ما يهمني هو المصارعة الشخصية مع الألم بوصفه قدراً شخصياً. هذا هو الألم الذي يستحيل شعراً ويجد نفسه في الشعر. وعندما نتحدث عن الشعر، فأنا لا أستبعد أن يكون الحديث عن الألم. أما السر فيه، فهو قدرته على التمدد ليصبح جماعياً. هو نفيٌ كاملٌ لكنه قبولٌ أيضاً، قبولٌ لما تسميه قدراً.

«لقد صنعنا أطفالاً لن يكترثوا بنا، سيستعيروننا فقط قبل أن يفسدوا آثارنا»، هل هو نوع من الندم السيوراني (نسبة إلى إميل سيوران) على النسل والتكاثر؟
ـــ ليس تماماً، لكن بالطبع هي رؤية خاصة. ما أستطيع قوله هو أنني لم أضع في ذهني أن أنجب أولاداً، كنت أتمنى أن أتبنّى، ولكنّ الأمور لم تدر على هذا النحو. أنجبت أولاداً وأنا أشعر أن بين الآباء والأبناء صراعاً. أظن أنّ هناك شيئاً من الفرويدية في هذا الكلام، فالطرفان في معركة دائمة، وهذه المعركة هي في أصل وجود الأبناء والآباء. فكلّما كبر الأبناء، فرّوا منّا وهربوا من هذه العلاقة، وكلّما تهيّؤوا ليصبحوا آباءً، تهيّؤوا ليهجرونا.

هل يرحل الشعر يوماً كما الأبناء إلى غير رجعة؟
ــ بحسب ظنّي لا يوجد زمن ننقطع فيه عن الشعر أو لا نشعر به، هو الآن في مشكلة ويعاني خوفه من الاندثار، بل يكاد يبدو مندثراً أو سرّاً لا يمكن التقاطه. لكن أيضاً أظنّ أن الشعر بما هو محاولة لتسرير اللغة يبقى بطريقة أو بأخرى. يمكن أن يصيبه ما أصاب السمفونية، تماماً كالشعر الذي بدأ احتفاءً وابتهاجاً بالعالم والذي تحوّل إلى عكسه. اليوم لا نجد هذا الشعر، فقد انقلب على مفاهيمه وتعريفاته الأولى. الشعر الذي كان غناءً واحتفاءً بالحب والأشياء يتحوّل إلى عكسه، أي إلى نثر. فالشعر في الأصل غناء، والنثر في الأصل سلبي قائم على النفي، وتحوّل الشعر إلى نثر ليس متعلقاً فقط بالأوزان أو الأشكال، بل هذا التحوّل يتبنّى مفهوم النثر بأن أصبح تشاؤماً وسلباً ونفياً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا