هناك أقوال تشيع، وتُفهم على غير حقيقتها، بحيث يبدو وكأن سوء فهمها هو الشرط الأساسي لشيوعها. بذا يمكن القول إن سوء الفهم هو الناشر الأكبر أحياناً. خذ مثلاً المقولة التي تُنسب إلى المسيح: «لا كرامة لنبي في وطنه»، وترد بأكثر من صيغة في الأناجيل: «ليس نبي بلا كرامة، إلا في وطنه». أو «ليس لنبي كرامة في وطنه»، إلخ. فقد فهمت الجملة على أنها تعني: لا احترام لنبي في وطنه. فهو يُحترم في كل مكان إلا في وطنه. وخذ ما تقوله «ويكبيديا» بالعربي عن هذه المقولة: «لا كرامة لنبي في قومه هي عبارة إنجيلية وتعني أن الشخص لا يلقى الاحترام والتقدير من قومه بل من الآخرين. وبالفعل فقد آذت ثمود النبي صالحاً وآذت قريش النبي محمداً، وآذى قوم إبراهيم النبي إبراهيم. وحتى نبي المورمون، فقد تم إيذاؤه من قومه وهاجر إلى مكان آخر». وهكذا، فليس أنه لا احترام لنبي في وطنه، بل إن الأذى هو ما يعد له.

فاليريا ماتيلشكا ــــ «نبي» (أكريليك على ورق ــــ 37 × 22 سنتم ـــ 2020)

وبهذا المعنى بالضبط، فُهمت المقولة بشكل خاص عند الأدباء والفنانين، والمثقفين عموماً. فحين يشعرون أن بلادهم لا تهتم بهم، في حين تهتم بهم بلدان أجنبية يقولون: لا كرامة لنبي في وطنه. أي أنك لن تحصل على التقدير والاحترام في بلدك مهما فعلت.
لكن يبدو لي أن الجملة لم تكن تعني هذا في الأصل. فالكرامة فيها تعني: المعجزات الدينية، لا الاحترام والتقدير الشخصي. وعند المسلمين تُسمى معجزات الأولياء بالكرامات. ويحاول القرطبي أن يفرق بين الكرامة والمعجزة، فيقول: «الفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى، والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك» (تفسير القرطبي). لكن الأصل أن الكرامات معجزات ما. وهي في الأناجيل، وحسب الترجمة العربية، معجزات المسيح. ويؤيد هذا الفهم بوضوح ما ورد في الإصحاح السادس من إنجيل مرقس: «وخرج [المسيح] من هناك وجاء إلى وطنه وتبعه تلاميذه. ولمّا كان السبت، ابتدأ يعلم في المجمع. وكثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين: من أين لهذا هذه؟ وما هذه الحكمة التي أعطيت له حتى تجري على يديه قوات مثل هذه. أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوَليست أخواته ههنا عندنا؟ فكانوا يعثرون به. فقال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة، غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم» (مرقس 6: 1-5).
وهكذا، فحين عاد المسيح إلى مسقط رأسه، بهت الناس هناك بما يقول. فمن أين لهذا الرجل الذي يعرفونه، ويعرفون أباه وأمه كل هذا الذي يتدفق على شفتيه؟ وقد ردّ المسيح على هذا بقوله: «ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته». أي أن كرامات الرسل الإلهيين، لا تأتيهم في أوطانهم الأصلية. عليهم أن يغادروا هذه الأوطان كي يصنعوا كرامات ومعجزات.
لكن الجملة الحاسمة في النص هي جملة: «ولم يقدر [المسيح] أن يصنع هناك ولا قوة واحدة». أي لم يستطع أن يقوم حتى بمعجزة واحدة في وطنه حين عاد إليه. هذا يدل على أن الأنبياء لا يملكون أن يأتوا بالمعجزات في أوطانهم وبين أهلهم. معجزاتهم تظهر خارج أوطانهم دوماً. صحيح أن النص أضاف «غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم». لكن أغلب الظن أن هذه إضافة على النص الأصلي. فمحرر الكتاب لم يكن ليقتنع تماماً أن المسيح لم يكن بمقدوره أن يأتي بمعجزة في وطنه. لذا جعله يشفي مرضى قليلين كي يشفي غليله.
وفي سفر يوحنا، هناك ما يؤكد ما نقول أيضاً: «لأن يسوع نفسه شهد أن ليس لنبي كرامة في وطنه. فلما جاء إلى الجليل قبله الجليليون، إذ كانوا قد عاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد، لأنهم هم أيضا جاؤوا إلى العيد» (يوحنا 3: 44-45). وهكذا فقد تقبّل الجليليون المسيح لأنهم شهدوا (عاينوا) معجزاته في القدس لا في الناصرة أو غيرها. لقد رأوها في مواطن غربته لا في مسقط رأسه. فليس له في الناصرة، بلده، معجزات. فشرط معجزات الرسول أن تكون مهاجرة، وأن تتفتّح خارج بلده.
لذا، فالهجرة عنصر حاسم في مسألة الكرامات والمعجزات، بل وفي النبوة عموماً. وقد حصل هذا مع النبي محمد بشكل أو بآخر. فلم تقنع نبوته، ولا كلامه إلا فئة قليلة من أهل مكة، فكان عليه أن يهاجر إلى يثرب كي تتفتّح نبوته. ففي الهجرة تجد النبوة ذاتها، وتجد الكرامات والمعجزات تربتها. يثرب لا مكة هي تربة النبوة. القدس لا الناصرة هي تربة المعجزة. الهجرة لا الإقامة هي مفتاح النبوة.
وفي كل حال، ربما يكون جذر المسألة أن أهل بلد ما يعرفون ابن بلدهم. فهم قد خبزوه وعجنوه جيداً، لذا فهم يتركون للآخرين تصديق معجزاته المفترضة.
وأخيراً، فإن للشعر أيضاً هجرته. بل إن الشعر يتفتّح بالهجرات. فقد تفتّحت نبوءة المتنبي في الشام لا في العراق. كما تفتّحت نبوءة أبي العلاء المعري في العراق لا في الشام. أما الشنفرى قبلهما، فكان أميل إلى أهل سوى أهله وموطن سوى موطنه:
أقيموا بني أمي صدور مطيّكم
فإني إلى أهل سواكم لأميل
فقد حُمّت الحاجات والليل مقمر
وشُدّت لطيّاتٍ مطايا وأرحل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن شاء القلى متعزّل.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا