ما الذي نتكلّم عنه حين نتكلّم عن فلسطين؟ كلّ شيء ولا شيء. هذا ما ينتابنا دوماً حين نفكّر بالكلام أو بالكتابة عن فلسطين. سادت العادة أن تكون فلسطين إمّا فوق الكلام أو تحت الكلام؛ إمّا أن نبالغ في الحديث عنها فتصبح عصيّة على المقارنة وعلى التعبير، أو أن نتجاهلها كأنّها لم تكن، فيظنّ دافنوها أنّهم قد تخلّصوا منها حين سكتوا عنها. هل هي الأرقام والإحصائيّات؟ أم البشر والحجر؟ أم الماضي والحاضر؟ أم المستقبل الذي لا براء منه؟ أم هي بلاد كأيّة بلاد أخرى لا بدّ من أن تبقى ضمن مستوى الكلام بلا إفراط وبلا تفريط؟ في أحد الأيام، سألتُ صديقةً فلسطينيّة عن القدس: هل هي بجمال ما يُكتَب عنها أم أنّ قداستها تُعمينا عمّا سواها؟ هل نعبّر عنها بالوعي أم اللاوعي؟ كان جوابها أنّ القدس مدينة كغيرها، بصخبها وفوضاها وتلوّثها، وبهدوئها وتنظيمها وصفائها، ولكن ثمّة سر غريب فيها عجزت صديقتي عن إدراكه، وعجزتُ أنا عن إدراكه طبعاً، ولكنّي فهمته بالمقارنة مع علاقتي بالشام. مدينة كغيرها من المدن، وبلاد كغيرها من البلاد، لكنْ ثمّة ما هو أكبر. أمر يعجز عنه الكلام ولذا نخفق دوماً في التعبير عنه فنجعلها كل شيء ولا شيء.

هذا عن فلسطين، عن البلاد. ولكن ماذا عن ناسها؟ ماذا عن الفلسطينيّين؟ منهم مَنْ ولد وعاش وسيموت داخلها، ومنهم من ولد وعاش وسيموت خارجها، وبتنا نقرأ قصصهم الآن. ما معنى أن تكون فلسطينياً وأنت لا تمتلك من فلسطينيّتك إلا الهويّة، إلا تاريخ آبائك وأجدادك فيما أنت نصف فلسطينيّ في أفضل الأحوال؟ هل يكفي تاريخك ليؤكّد حاضرك، أم أنّ المياه قد جرت تحت جسور الزمن وانتهى الأمر. هذا ما يتناوله عمر خليفة في روايته الأولى «قابض الرمل» (دار الأهليّة). يتناول مسألة أن تكون فلسطينياً من الجيل الثالث؛ أن تكون حفيداً للفلسطينيّين المنكوبين فيما أنت – في واقع الحال – ابنٌ لبلاد أخرى شكَّلَتْكَ وشكَّلْتَها. يحاول خليفة أن يكتب عن هذا الجيل الثالث من خلال شريحة فلسطينيّين ثلاثينيّين وثلاثينيّات من الطبقة الوسطى، ولدوا ودرسوا وعملوا فيما فلسطين ليست أكثر من نبأ في التلفزيون ومواقع التواصل. هم بمنجاة من لعنات الذاكرة كما يظنّون، ولكنْ كان يكفي حدثٌ صغير عابر كي ينكأ جراحاً كانت خفيّة عليهم قبل أن تكون خفيّة على غيرهم. وكأنّ قَدَر الفلسطينيّين أن يبقوا فلسطينيّين حتّى حين يظنّون أنّهم أبناء جيل لم يكتوِ بنار الذاكرة.
تتلاقى مصائر أربعة صحافيّين حين يُكلَّفون بكتابة تحقيق عن ذاكرة عجوز فلسطينيّ عاش النّكبة ويأبى الحديث عنها. تتّسع دائرة المصائر شيئاً فشيئاً في دوّامة تبتلعهم وتبتلع شاباً آخر هو حفيد ذلك العجوز، بحيث تلاقت الأزمنة وتداخلت وتصادمت ليجرف الماضي كلّ شيء. فالنّكبة لم تكن بالنّسبة إلى هؤلاء الشباب إلا حدثاً تاريخياً يمسّهم مساً طفيفاً، إذ صودف أنّهم فلسطينيّون. بل كانوا يظنّون أن فلسطين أيضاً ليست إلا حدثاً في الماضي لا يمتّ بصلة لحاضرهم الغارق في محاولات العيش والحب والجنس والزواج والعمل. لم تكن إلا حدثاً بعيداً قد يمرّون به في فيلم وثائقيّ أو قد تتقاطع مع حيواتهم في مفارقات ساخرة، كما هي الحال مع الدبكة والهويّة واللهجة. تلك محض أقنعة لماضٍ لا يعنيهم، ولكنّ تلك الصدفة أمست لعنةً مزّقت الأقنعة كلّها ليدركوا أنّ تلك النّكبة التي رسمت تاريخ أجدادهم وآبائهم سترسم مصائرهم هم أيضاً. وتتضاعف المفارقة حين نجد أنّ النكبة مسكوت عنها حتى لدى ذاكرة العجوز، ولكنّ ذلك المسكوت عنه والخفيّ والمُتجاهَل سيتفجّر لتطال شظاياه الجميع على اختلاف أجيالهم. يلعب عمر خليفة في منطقة حرجة ودقيقة للغاية، إذ يحاول تدوين تلك المفارقات الساخرة من دون أن يغرق أو يُغرِق شخوصه في لعنة الماضي. لا يتعامل خليفة مع شخوصه بحبٍّ أو بتقديس بل يسخر منهم كلّهم، ولكنّ تلك السخرية لن تكون جارحةً برغم قسوتها، إذ هي معجونةٌ بفهم الذات وفهم الشّخوص الأخرى، فالكاتب – مثل شخوصه – ضحيّة تلك المفارقات التي يدوّنها، وضحيّة صمت ذلك العجوز الذي يصمت فيجرح ويحكي فيجرح.
تتلاقى مصائر أربعة صحافيّين حين يُكلَّفون بتحقيق عن عجوز فلسطينيّ عاش النّكبة


تتضاعف صعوبة الكتابة حين أراد خليفة الكتابة عن فلسطين وعن الفلسطينيّين مع إبقاء النّكبة خلفيّةً للأحداث. ليس التّحقيق الصحافيّ مركز الأحداث في نهاية المطاف، بل هم الشّباب الفلسطينيّون وحيواتهم المتقاطعة، في تشابهاتها وتبايناتها. نقرأ عنهم وعن تفاصيل حيواتهم قبل التّحقيق وبعده؛ فالجنس والأخطاء والبوح والصمت والقرب والبعد تفاصيل مهمة مثلها مثل جراح الذاكرة. ولكنّ هذا محض قناع آخر، إذ كان يُفترَض بالصحافيّين الأربعة وبالحفيد أن يعودوا إلى تفاصيلهم القديمة حالما أخفقَ التّحقيق، ولكنّهم وُشموا بذاكرة الأجداد، وما عاد أمامهم مفرّ من الإيغال في نكء تلك الجراح أكثر فأكثر، وفي مماهاة جراحهم الشخصيّة مع جرحهم الجمعيّ. ندرك حين نصل إلى الثلث الأخير من الرواية بأنّ الثلثين الأوَّلَيْن ليسا إلا تمهيداً لما سيحدث. وكأنّ هذا التقسيم مرآة لحيوات الشّخوص أيضاً، فكلُّ تفاصيلهم قبل التّحقيق ليست إلا تمهيداً لما سيحدث لهم ومعهم أيضاً، ولذا كان الثّلثان بطيئين إلى درجة الملل أحياناً. ولكنّ خليفة يتقن نصب الفخاخ، ويبرع في كتابة المواقف المركّبة. فالبراعة، كلُّ البراعة، هي اللعب على الخيط الخفيّ بين سعي الشّخوص إلى اكتشاف سر صمت العجوز وبين سعيهم إلى اكتشاف ذواتهم؛ بين الانتقام الطائش من العجوز وبين الفضول الحارق لإتمام نقص الذاكرة. البراعة هي في اللعب على المعنى المزدوج لـ«التّداعي»: تداعي الحياة وتداعي الذاكرة. ندرك متأخرين، مثلنا مثل شخوص الرواية، بأنّ الذاكرة هي الحياة، حتّى لو كنّا أبناء جيل ثالث أو رابع أو خامس.
لا يمنح خليفة أسماء لشخوص الرواية، بل تمسي صفاتهم هويّة لهم. ولكنْ أدّى هذا التّجريد إلى طمس الفوارق بين الشّخوص أحياناً، وإلى تركيز متفاوت في رسم ملامحهم، بحيث كاد بعضهم يخرج من الصورة تماماً حين تحوَّلت دائرة الضوء إلى غيره. ربما كانت الرواية تحتمل تفصيلاً أكبر، ومعالجة أعمق لشخصيَّتَيْ القائد والمترجمة، مثلاً، بالمقارنة مع المعالجة الرهيفة لشخصيّتَيْ الخائنة والحفيد. ولكنّنا أمام رواية أولى مبشّرة للغاية، وأمام كاتب يتقن التقاط التفاصيل المركّبة التي تصوغ هويّاتنا وشخصيّاتنا بوصفنا بشراً عالقين في ذاكرتنا وذاكرة آبائنا؛ كاتب يرى الأقنعة التي نرتديها كلّنا، فيمزّقها بجرأة لنفهم أنفسنا أكثر، ونتلمّس هشاشتنا أكثر.