في كتابٍ كبير الحجم يمتدّ على قرابة تسعماية صفحة، يخوض الدبلوماسي والباحث العراقي المعروف ياسر عبد الحسين نزاله الجديد في بحثٍ حول الدبلوماسية، وقد أعطاه عنوان «الجيل الثاني من الدبلوماسية: تدافع الهويات في السياسة الخارجية». الكتاب الرابع للباحث صدر عن «دار الرافدين»، يقارب واحدة من أعقد المسائل السياسية في التاريخ المعاصر، ويطرح أسئلة شديدة الأهمية حول العلاقات الخارجية بين الدول، وكيف تحكم، وكيف ترتّب، وكيفية الوصول إلى أساس لتكوين مدرسة في تلك العلاقات.على امتداد الكتاب أي المقدمة والاثني عشر مبحثاً، يطالعنا عبد الحسين بسعة إطلاعه وإصراره على أن يكون كتابه بحثياً بحق، فيعتمد على تجميع المصادر الأصلية كي يدخل منها إلى الأبحاث حول المادة المراد الولوج إليها، وهذه الميزة يفتقدها الشقّ البحثي العربي. إذ لا تحضر دراساتٌ عربية/ أكاديمية محترفة بهذا الحجم، لذلك يمكن اعتبار تجربة عبد الحسين واحدةً من التجارب المجدّة في هذا الإطار. يضاف إلى هذا مثلاً إصراره على أن يورد الاسم الأصلي لأي شخصية وردت في الكتاب. يبدأ الكتاب مع مقدمةٍ يشرح فيها المؤلف وإن بإطار «فلسفي/أدبي» حول المسألة المراد تناولها. إنها العلاقات البشرية والهوية القائمة على تفاصيل عدّة؛ إذ ما الذي يجعل «أوباما الرئيس الأميركي القادم من كينيا، وفقاً لعمّة أوباما التي قالت لرئيس المستقبل: إذا كان كلّ فرد عائلة، فلا أحد يشكل عائلة، عادة ما يحبّ الناس الأشياء الأصغر لكي ينتمي إليها، هذا هو الواقع». ماذا عن فرانسيس فوكوياما الياباني الأصل، الأميركي الهوى والهوية؟ ماذا عن أنتوني أبياه (الفيلسوف البريطاني من أصل غاني)؟ ماذا عن أمين معلوف (فرنسي ذو أصل لبناني) هل فعلاً هويتهم هي أصولهم؟ أم أنَّ هويّتهم هي انتماءاتهم وجنسياتهم وأفكارهم؟ معلوف الذي يشير -بحسب المقدّمة- إلى أنَ «الهوية صديقٌ مزيف، فهي تبدأ بالكشف عن تطلع مشروع وتصبح فجأة أداة حرب».


تطرح المقدّمة سؤالاً مهمّاً بعدها حول التأثير الكبير للهوية على الدبلوماسية والعلاقات الخارجية؛ حيث لديها جيلان يمثلانها. الأوّل يحضر مع مكيافيللي وكتابه الشهير «الأمير» وصولاً إلى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق وكتابَيه حول الدبلوماسية. أما الجيل الثاني، فهو أشدّ تعقيداً وترتيباً، ولا يأتي بمعزل عن المؤثرات الخارجية لأيّ دولة ومحيط توجد فيه. تبدأ فصول الكتاب مع المبحث الأوّل من دولة الليفيثيان مروراً بمالتوس وصولاً إلى غوغل. يشرح الكاتب في هذا الفصل الرحلة الكبرى التي طبعت تكوين الدول. كأنها ثيمة في الكتاب، يصرّ ياسر عبد الحسين على وضع عند بداية كل فصل جديد «شرح» وتفصيل لرواية -عربية أو غربية- لربط فكرته ببنية أدبية. هو لا يشرح لماذا فعل هذا، لكنه نوعٌ من خلط الأدب الذي يظهر البنية العقلية والوعي الجمعي للمجتمعات مع الأفكار السياسية التي تكوّن بنيته وتحكم علاقاته مع ما حوله. هنا في هذا المبحث/ الفصل، يبدأ الحديث عن دولة «الأخ الأكبر» القصة الشهيرة لجورج أورويل، ويشرح وصولاً إلى الفيلسوف والرياضي الإنكليزي توماس هوبز الذي يرى بأنَّ «الوحش هو الحل» (في إشارة إلى الليفاثيان الوحش الشهير من التوراة) بشكلٍ أو بآخر. في المبحث/الفصل الثاني، يتناول الباحث الجيل الثاني ودبلوماسية الميكرو، يبدأها كعادته مع نصٍّ أدبي شارحاً رواية العالم السفلي للكاتب الأميركي دون ديليلو التي تناولت الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي. فيحكي في هذا الفصل مثلاً عن «دبلوماسية السلفي» ويورد صوراً لبعض الرؤساء ملتقطين -بأنفسهم- الصور التذكارية بهذه الطريقة مع جمهورهم، مؤكداً أن وسائل التواصل الاجتماعي هي جزء من «التواصل/ الدبلوماسية» التي ساهمت في تحويل «كل مواطن إلى اعلامي»؛ وأعطته دوراً جديداً لم يكن متاحاً من قبل. في الفصل الثالث، يصل الكاتب إلى تشريح الهوية والبحث عن الذات، فيتناولها من خلال تناول رواية «ساق البامبو» للكاتب الكويتي سعود السنعوسي؛ طارحاً أزمة الوجود والانتماء في آنٍ معاً. فهل الهوية هي «نحن» أم «أنا»؟ يسأل الباحث.
في الفصل الرابع، يتناول الهوية والسياسة الخارجية، مشيراً إلى أنّها عدسةٌ بلا إطار، فيتناول رواية «الحفيدة الأميركية» للكاتبة العراقية إنعام كجه جي، التي تتناول زينة الفتاة العراقية التي تعيش في أميركا وتحمل جنسيتها وتنخرط في الجيش الأميركي الغازي للعراق، فيما هي تبحث عن جدّتها. تجدها في النهاية، لكنها لا تجد ما تبحث عنه «القبول من المجتمع بحد ذاته، فهو -أي المجتمع- لا يراها إلا كمحتلة، لا أكثر ولا أقل». يشرح الكاتب في هذا الفصل الواقعية السياسية، التي ترتبط بمفهوم بسيط يتناوله، إذ يقول: «في السياسة أنا واقعي، إذاً أنا سياسي». في الفصل الخامس «السياسة الخارجية الديمقراطية واللامركزية والأقليات»، يستخدم رواية «باب الخروج» للمصري عز الدين شكري التي تناولت المجتمع المصري والفترة الانتقالية التي مرّ بها خلال ثورة 2011. هنا يتناول مفهوم الديمقراطية، مشيراً إلى أن «الديمقراطية في المجتمعات الانتقالية لن تنجح إلا بشرطها وشروطها، فلا حديث عن يدمقراطية من دون وجود مؤسسات حقيقية عبر قضاء مستقل وشفاف وجامعات علمية رصينة، وتنشئة اجتماعية لتمكين هوية وطنية راسخة في القيم الاجتماعية». أما في الفصل السادس «متلازمات الدولة الهوية والأمن والقوة»، فيحكي عن رواية «أن تبقى» للتونسية خولة حمدي، حول تأثير الأحداث الجيوستراتيجية على المواطن/الفرد، وعلى المجتمعات والعقل الجمعي المتكامل لها. في الفصل السابع، يتناول رواية «كوخ العم توم» للأميركية هارييت بيتشر ستاو التي تتحدث عن العبودية بأقصى أشكالها والتي كانت تسود الجنوب الأميركي في القرن الثامن عشر. في الفصول التي تلي، يتناول الباحث عدداً أكثر من المباحث محاولاً قدر الإمكان الإحاطة بما يريد قوله وعلى أقصى اتساع لفكرته.
يتميّز الكتاب بكثرة المصادر والمراجع


واحدة من أهم الملاحظات في الكتاب هي كثرة المصادر والمراجع، فضلاً عن تنوعها بشكلٍ أفقي وعامودي، متناولةً المادة المراد بحثها، مع ربطها في كثير ٍمن الأحيان بنصوصٍ وكتبٍ أدبية قد يعتبرها بعضهم بعيدةً عن النص السياسي/الدبلوماسي. «الجيل الثاني للدبلوماسية» كتابٌ بحثي شديد الأهمّية، إذ تفتقد المكتبة العربية لهذا النوع من الأعمال؛ فضلاً عن حاجتها للتراكم من ذات الكمّ والنوعية. في الإطار عينه، يُسأل الكاتب: ألم يكن من الأفضل تقسيم الكتاب إلى كتابين؟ إذ إن حجمه الكبير وتعقيد الموضوع الوارد فيه، قد يجعلانه إلى حدٍّ ما ثقيلاً على قراء العصر الحديث، هذا من جهة. من جهةٍ ثانية يأتي السؤال الأبرز: من هو جمهور هذا الكتاب؟ هل هم الأكاديميون؟ أم الباحثون المختصون؟ أم أرباب السياسة والدبلوماسية؟ أم المواطن العادي الراغب في معرفة هذا العالم بطريقةٍ مختلفةٍ عن المعتاد؟ للحقيقة هذا ربما أهم سؤال حول الكتاب: إذ يتخالط الأمر، ففي بعض الفصول، النص قوي وصعب إلى حدٍّ ما على القارئ العادي، فيما هو يبدو سهلاً وسلساً للغاية في مقاطع أخرى، فهل تعمّد الكاتب ذلك؟ في المحصّلة هو كتابٌ يستحق القراءة وجهدٌ كبير يضاف إلى المكتبة العربية علّها تستعيد شيئاً من عافيتها.