ما زلتُ غير قادر على تقبّل التفسيرات السائدة للآية رقم 9 من سورة الفجر: «وثمود الذين جابوا الصخر بالواد».فقد افتُرض أن الجب في الآية هو القطع والشق، وأنه جب بقصد بناء البيوت. مع أن الآية لم تخبرنا أن ثموداً جابت الصخر بيوتاً أو قصوراً، بل اكتفت بأن قالت «جابوا الصخر». وقد افتُرض أن الأمر يتعلق بالجب لبناء البيوت بسبب ربط آية «الفجر» هذه بآية «الشعراء» التي تقول: «وتنحتون من الجبال بيوتاً» (الشعراء 149). بذا فقياس الآية على الآية هو الذي جعل الجب نحتاً. كذلك، ربطت الآية بآية سورة الأعراف: «وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُم خُلَفَاءَ من بعد عادٍ وَبوأكُمْ تَّتخِذونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصٌوراً وتَنْحتُونَ الجَبَالَ بُيُوتاً» (الأعراف 74). بذا، فلا بد أن ثمود جابت الصخر، أي قطعته، من أجل بناء بيوتها أيضاً. مع أنه لا آية الأعراف، ولا آية الشعراء، تتحدثان عن الوديان، في حين أن مركز آية الفجر هو الواد. وهناك فرق كبير بين الجبل والواد في ما أظن.
وأنا في الحقيقة ميال إلى أن الأمر لا يتعلق لا بالقطع ولا بالنقب ولا بالبناء، بل يتعلق بالآبار، وبأحواض الماء. فالجبا هو الحوض الذي يجمع فيه الماء: «الجَبَا: الحوضُ الذي يُجْبَى فيه الماء ي يُجْمَع» ( ابن سيده، المخصص). كما أن الجبّ هو البئر في اللغة. لكن يُختلف على السبب الذي جعل البئر يُدعى جبّاً «الجُبُّ: البِئرُ... وقيل: هي البِئْر لم تُطْوَ... وقيل: هي البِئر الكثيرة الماءِ البَعيدةُ القَعْرِ... وقيل: لا تكون جُبّاً حتى تكون ممّا وُجِدَ لا مِمَّا حفَرَه الناسُ. والجمع: أَجْبابٌ وجِبابٌ وجِبَبةٌ، وسُمِّيَت البِئْر جُبّاً لأَنها قُطِعَتْ قَطْعاً، ولم يُحْدَثُ فيها غَيْر القَطْعِ من طَيٍّ وما أَشْبَهه. وقال الليث: الجُبّ البئر غيرُ البَعيدةِ. الفرَّاءُ: بِئْرٌ مُجَبَّبةُ الجَوْفِ إِذا كان وَسَطُها أَوْسَعَ شيء منها مُقَبَّبةً. وقالت الكلابية: الجُبُّ القَلِيب الواسِعَةُ الشَّحْوةِ» (لسان العرب).
وكما نرى، فهناك عدة فرضيات لفهم سبب تسمية البئر بالجب. واحدة من هذه الفرضيات أن البئر لا يدعى جبّاً إذا كانت مصنوعة بيد الإنسان «قيل: لا تكون جُبّاً حتى تكون ممّا وُجِدَ لا مِمَّا حفَرَه الناسُ»، أي أنه يفترض أن تكون البئر طبيعية، أي أن يتدفق ماؤها وحده حتى تكون جبّاً.
وفي القصة الأسطورية الدينية عن هجوم إسرائيل ويهوذا على الملك ميشع المؤابي ما يدعم هذا. فقد حصل نقص في المياه عند المهاجمين، فبادر النبي اليشع إلى إسعافهم: «فقال اليشع: حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه أنه لولا اني رافع وجه يهوشافاط ملك يهوذا لما كنت أنظر إليك ولا أراك [يتحدث عن ملك إسرائيل]. والآن فأتوني بعوّاد. ولما ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب. فقال هكذا قال الرب اجعلوا هذا الوادي جباباً جباباً. لأنه هكذا قال الرب لا ترون ريحاً ولا ترون مطراً وهذا الوادي يمتلئ ماء فتشربون أنتم وماشيتكم وبهائمكم» (الملوك الثاني 3: 14-16).
وكما نرى، فالآية التوراتية تقول: «اجعلوا هذا الوادي جباباً جباباً». أي أن ثمة وادياً امتلأ بالماء، فطلب منهم أن يجعلوه جباباً جباباً، أي آباراً. بذا فليس هناك حفر ولا نقب ولا نقر. هناك جمع ما للمياه يجعلها جباباً. وعلينا أن نلحظ أن الوادي امتلأ بالماء من دون ريح ولا مطر. وهو ما يعني أن الأمر يتعلق بالماء السفلي لا بالماء العلوي، ماء المطر. ومن الواضح أن هذا الماء تدفق من الأعماق وجرى في الوادي بعدما ضرب العواد بالعود، أي بعد الفعل السحري الموسيقي الذي أمر به اليشع. وحين فاض الماء في الوادي بعد العزف، طلب اليشع من جنود يهوشفاط أن يجعلوا الماء جباباً جباباً. أي أن يجمعوا الماء في جباب. فالجب في اللغة هو الجمع: «الجيم والباء في المضاعف أصلان: أحدهما القَطْع، والثّاني تجمُّع الشيء... والجُبْجُبَة: زَبيلٌ من جُلود يُجمَع فيه التُّرابُ إذا نُقِل... والجَبُوب: الأرض الغَليظة، سمِّيت بذلك لتجمّعها» (ابن فارس، مقاييس اللغة). لقد جرى تجاهل معنى الجمع في الجذر لصالح معنى القطع، وهو ما أدى إلى كل هذا التشوش بخصوص الآية.
عليه، فكل ما فعله جنود يهوشفاط أنهم جمعوا الماء المتدفق، أي حوطوه، بالحجر، لكي يتجمع ولا يذهب هدراً. وفي ظني أن هذا ما فعلته ثمود. لقد «جابوا» الصخر بالواد، أي وضعوه وجمعوه حول الماء كي يسكن الماء ويتجمع، ويصير بئراً، أي جبّاً. ولا أستبعد أن الكلمة كانت في الأصل «جبّوا» وليس «جابوا». بذا فليس هناك قطع وقصّ.
الآية تعطينا إشارة أسطورية عن انقسام الماء العذب في الكون إلى ماءين: سفلي وعلوي


يؤيد هذا أن الجذر «ثمد» الذي اشتُق منه اسم «ثمود» على علاقة واضحة بالآبار والمياه. فالثمد هو البئر: «وفي الحديث: فنزل على ثَمَدٍ بوادِي الحُدَيْبية ظَنُونِ... وهي البئر التي يُظَنُّ أَن فيها ما» (لسان العرب). يضيف الصحاح: «الثَمَدُ والثَمْدُ: الماء القليل الذي لا مادَّةَ له. واثَّمَدَ الرجلُ واثَّمَدَ بالإدغام، أي ورد الثَمَدَ. وماءٌ مَثْمودٌ، إذا كثُر عليه الناس حتّى يُنفِدوه إلاّ أقلَّه» (الجوهري، الصحاح). يزيد ابن سيدة: «أثمدنا ثمداً: احتفرناه... والثمد لا يكون إلا فيما غلظ من الأرض. وحكى عن الكلابيين أن الثمد عندهم كل ما ثمد منه الماء في سهل أو جبل» (ابن سيده المخصص).
وهناك شخصية أسطورية عربية تدعى «جوّاب» اشتهر بحفر الآبار: «جَوَّابٌ: اسم رجل من بني كلابٍ؛ قال ابن السكيت: سُمي جَوَّاباً لأَنه كان لا يَحْفِرُ بئْراً ولا صخْرةً إلا أَماهَها» (لسان العرب)، أي لم يكن يحفر صخرة أو بئراً إلا استخرج ماءها. وظني أنه الرجل أخذ اسمه من الفعل «جاب» في الآية أو «جب»، بمعنى جمع لا بمعنى حفر. ولا بد لهذا الجوّاب أن يكون على علاقة ما بثمود، الجد القبلي للثموديين، الذي لا بد أنه كان جباباً جواباً، أي جامعاً للماء السفلي المتدفق، أو بالأحرى دافعاً للماء السفلي من الأعماق كي يصير جباباً جباباً. وهو ما يعني أنه بشكل ما إله للماء السفلي مثله مثل «ثمود» جد الثموديين الأكبر.
إذن، يبدو أن الآية القرآنية تعطينا إشارة أسطورية عن انقسام الماء العذب في الكون إلى ماءين: سفلي وعلوي، وأنها تربط ثمود بالماء السفلي. وهي تعزف على هذا الانقسام كما عزفت آيات سفر الملوك الثاني. أي أننا مع الأسطورة ذاتها. فأساطير المنطقة واحدة وإن اختلفت الأسماء.

* شاعر فلسطيني