حدثتنا المصادر العربية عن جماعة من سكان البحرين في بداية الإسلام تدعى «الأسبذيين». ويفترض أن الرسول كتب عهداً لواحد من زعماء هؤلاء في «هجر» يدعى المنذر بن ساوي. وقد اختلف بشدة حول أصل اسم الأسبذيين هذا. وهناك فرضيات عدة بشأنه. وخذ ما جمعه ابن الأثير المحدّث عن هذه المسألة:«أسبذُ قرية بالبحرين وصاحبها المنذر بن سَاوي. وقد اختُلف في الأسبذيين من بني تميم لم سُموا بذلك. قال هشام بن محمد بن السائب: هم ولد عبد الله زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. قال: وقيل لهم «الأسبذيون» لأنهم كانوا يعبدون فرَساً. قلت أنا: الفرس بالفارسية اسمه أسب زادوا فيه ذالاً تعريباً. وقيل كانوا يسكنون مدينة يقال لها «أسبذ» بُعمان فنُسبوا إليها. وقال الهيثم بن عدي إنما قيل لهم «الأسبذيون» أي: الجمّاع، وهم من بني عبد الله بن دارم منهم المنذر بن ساوى صاحب هَجَرَ الذي كاتبه رسول الله» (ابن الأثير المحدث، النهاية في غريب الحديث والأثر).


أما الشيباني، فيرى أن الاسم نسبة لملك فارسي: «قال أبو عمر الشيباني في فسر ذلك: أسبذ: اسم ملك كان من الفرس، ملّكه كسرى على البحرين فاستعبدهم وأذلهم وإنما اسمه بالفارسية أسبيدوَيه، يريد الأبيض الوجه... فنسب العرب أهل البحرين إلى هذا الملك على جهة الذم» (ابن الأثير المحدث، النهاية في غريب الحديث والأثر). أما ابن الأثير فيرى شخصياً، أو ينقل عن آخرين، أنهم: «قومٌ من المَجوس لهم ذكْرٌ في حديث الجِزْية. قيل: كانُوا مَسْلَحَةً لحصن المُشقَّرِ من أرْض البَحْرين الواحدُ أسْبِذيّ والجمع الأسَابِذَة» (ابن الأثير المحدث، النهاية في غريب الحديث والأثر).
بذا، فهم قد سموا باسمهم:
1- نسبة إلى قرية أو مدينة بالبحرين، أو بعمان.
2- أو لأنهم كان يعبدون فرساً
3- أو لأن اسمهم «جمّاع»، أو أنه يمكن وضع إشارة مساواة بين الأسبذيين والجمّاع، لكن من دون أن ندري معنى الجمّاع هذا.
4- أو أنهم سموا، تشهيراً، باسم ملك فارسي يدعى أسبيدويه.
5- أو أنهم كانوا طائفة مجوسية بهذا الاسم.
أما الدكتور جواد علي، فينفي أن يكون الأسبذيون فرقة دينية على علاقة بالمجوس، ويرى أن الأسبذية رتبة عسكرية فارسية: «ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى أي ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا «الحصان». ورأيي أن المراد من «الأسبذية» الفرسان. وأن المنذر بن ساوى كان «أسبذاً» أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني» (جواد علي، المفصل).
ويخيل لي أن ربط هذه الجماعة بفارس، على أي وجه كان، ربما نبع من واحد من أمرين، أو منهما معاً:
الأول: حصول خلط بين «أسبذية» وكلمة «إصبهذية» الفارسية التي تعني منطقة عسكرية، على رأسها عسكري يحمل رتبة إصبهذ. هذا الخلط أدى إلى ربط هؤلاء الناس بالفرس كما رأينا عند الدكتور جواد علي في المفصل.
الثاني: وبما أن أمر هذه المجموعة كانت تعبد إلهاً يبدو أن الفَرَس- الحصان رمزه وحيوانه، فمن المحتمل أنه جرى خلط ما بين الفَرَس والفُرْس، وهو ما أدى إلى ربطهم بالفرس بشكل ما.



أما أنا، فأميل إلى تصديق ربط هشام بن السائب الكلبي الأسبذيين بعبادة فرس ما: «وقيل لهم «الأسبذيون» لأنهم كانوا يعبدون فرَساً». ويبدو لي أن هذا الفرس كان يدعى بالأسبذ، أو يوصف بأنه الأسبذ. وبما أن هذا الفرس حيوان إله ما، فلا بد من أن هذا الإله دُعي بالأسبذ. الفرس يدعى أسبذ لأن الإله الذي يمثله أسبذ. بذا أظن الأسبذيين دُعوا باسمهم نسبة لهذا الإله الذي كان معبودهم. ويؤيد شعر لطرفة بن العبد في هجاء عمرو بن هند وجود مثل هذا الإله في ما أعتقد:
خذوا حـذركـم أهل المـشَـقّـر والـصفا
عبيد أسبذ والقرضُ يُجزِي من القرض
ستُـصـبـحـك الــغْـلـباءُ تغـلِـب غـارةً
هنالك لا يُنجيك عَرض مـن الـعرض
ونجد تعبير «عبيد أسبذ» مروياً بالدال أحياناً (عبيد أسبد). ولست أدري إن كان تصحيفاً أو للاسم صيغتان. ولا أستبعد أن الاسم كان يُنطق بالصيغتين، وحسب المناطق. على أي حال، فتعبير «عبيد أسبذ» يوحي بقوة بوجود إله يدعى «أسبذ» كان يعبد عند أهل حصن المشقّر في البحرين. صحيح أن الشاعر استخدم كلمة «عبيد» بدل كلمة «عباد»، مما قد يوحي بالعبودية والتبعية وشوّش قليلاً على وجود هذا الإله، الأمر الذي جعلنا نصل إلى الحاكم الفارسي المزعوم «أسبيدويه». لكن يبدو أن هذا الإله كان بالفعل موجوداً. فقد عثرت على نقش في المسند نشره شخص يمني في موقع لبيع للقى الأثرية يبدو أنه يذكر هذا الإله. النقش في أسفل تمثال نذري لرجل وامرأة، أو لإله وإلهة:

وكما نرى فالنقش واضح تماماً. لكن المشكلة تكمن في الحرف الرابع من اليمين. فهو يشبه حرف الكاف وحرف الهاء في الخط المسند. ولو تجاهلنا عقفتي حرفي الألف والخاء، فإنه قريب منهما أيضاً. وقد بدا لي أن هناك بقايا لعقفة هذه الألف، وأنه يمكن رؤيتها، وهو ما شجعني على قراءة الحرف ألفاً.
وإذا صح هذا، فالنقش يقرأ هكذا: ف ت ل أ س ب ذ. وقد قطعته هكذا: «فت لـ أسبذ». وبناء على هذه القراءة، فالتمثال النذري قدم للإله أسبذ وقدم معه ما يسمى «فت». ويصعب أن يكون هذا النقش مزوراً، فلا أحد يذكر لنا إلهاً باسم أسبذ في اليمن كي يزوّر أحدهم نقشاً باسمه. بذا فأنا ميال بشدة إلى أنه نقش أصيل.
على أي حال، لم أعثر على كلمة «فت» في قواميس العربية الجنوبية. لذا، فنحن مضطرون للاستناد إلى القواميس العربية للتكهن بمعنى هذه الكلمة. والفتّ في هذه القواميس يعطي عموماً معنى الكسر والدق والتفتيت، ومنه الفتيت، أي الخبز المقطع المفتت. كما أن الفتّة: الكتلة من التمر. كذلك، فإن الفت نبات بري يؤخذ حبه ويطحن ويصنع منه خبر غليظ يؤكل في المجاعات. قال الراجز: الأبيضان أبردا عظامي/ الماء والفتُّ بلا إدام. فهل كانت تقدمة الرجل حبوب الفت، أم كانت تمراً، أم فتيتاً؟ نحن لا ندري. لكن حبوب الفت قد تتوافق مع فكرة أن هذا الإله يتمثل بحصان. بذا يكون الرجل قدم فتّاً كعلف لحصان الإله.

عباد سبد

وكان لدينا في «الحيرة» في جنوب العراق، التي كانت دوماً مرتبطة بشرق الجزيرة العربية وبالبحرين خاصة، إله يدعى «سبد». وكان عباده يدعون بـ «العباد». وهناك من يعتقد أن العباديين العراقيين حالياً من نسلهم. لكن هناك من رأى أن اسمهم على علاقة بعبادة الإله سبد هذا استناداً إلى شعر شهير: «وقيل بل كانوا يعبدون صنماً لهم يقال له سبد فقيل لهم عباد سبد، ولزمهم هذا الاسم. قال رجل من بني ربي من نمارة من لخم جنى جناية في قومه فخلعوه فلجأ إلى الحيرة: أرى سيفي نفاني من دياري/ وألجأني إلى سبل المخافة/ وألحقني العباد عباد سبد/ بلا نسب هناك ولا صرافة (أبو البقاء الحلي، المناقب اليزيدية في أخبار الملوك الأزدية)
إذن، فثمة إله يدعى «سبد» كان (العباد) يعبدونه. وحسب المصادر العربية، فقد كان العباد خليطاً من قبائل شتى. وقول الشاعر يؤيد. فقد ألحقه العباد بأنفسهم بهم من دون أن يكون منهم في الأصل. والاسم «الجمّاع» الذي أطلق على الأسبذيين ربما كان آتياً من أنهم هم أيضاً ليسوا من قبيلة واحدة، أي أنهم مجموعة «مجمّعة» من قبائل عدة مثلهم مثل العباد أو العباديين. ويتساءل المرء إن كان «سبد» هذا هو «أسبذ» ذاته، وأننا مع صيغتين عراقية وبحرانية للإله ذاته. الأولى تبدو مصدراً والثانية فعل تفضيل، في حين أن الذال قلبت دالاً في الحيرة. وإذا صح هذا، فنحن مع إله كانت عبادته واسعة الانتشار تشمل أجزاء من اليمن إضافة إلى البحرين وجنوب العرق.
على أي حال، فالتسبيد في اللغة هو غسل الشعر بالماء: «قال أَبو عبيد: سأَلت أَبا عبيدة عن التسبيد فقال: هو ترك التدهن وغسل الرأْس» (لسان العرب). يؤيد هذا أن هناك طائراً يدعى السُّبَدُ سمي بذلك لتبلل ريشه بالماء: «والسُّبَدُ طائر إِذا قَطَرَ على ظهره قطرة من ماء جَرى؛ وقيل: هو طائر لين الريش إِذا قطر الماء على ظهره جرى من فوقه للينه. قال الراجز: أَكُلَّ يوم عرشُها مَقِيلي، حتى ترى المِئْزَرَ ذا الفُضولِ، مِثلَ جناح السُّبَدِ الغسيلِ» (لسان العرب).
أكثر من ذلك واهم أن «العرب تسمي الفرس به إِذا عرق» باسم السبد (لسان العرب). بذا يمكن الافتراض أن الفرس المعبود كان فرساً متعرقاً. وهذا ينقلنا إلى الأخبار عن عبادة بعض العرب لخيل متعرّقة. ففي الحديث النبوي: «إنه [الله] خلق خيلاً، فأجراها، فعرِقت، فخلق نفسه من ذلك العرق، تعالى الله عن فرية المفترين وإلحاد الملحدين» (ابن تيمية، درء التعارض). ابن تيمية يرفض الحديث بشكل قاطع بالطبع، وقد يكون الحديث منسوباً إلى الرسول افتراء بالفعل. لكن هذا لا يمنع أنه ينقل تقليداً جاهلياً أصيلاً عن عبادة فرس متعرّق. بذا، فالأحاديث التي توصف بأنها «موضوعة» قد تكون شديدة الفائدة بخصوص معرفة معتقدات الجاهلية. يؤيد فكرة الفرس المتعرّق أن فرس «النعمان بن المنذر»، الذي أعتقد شخصياً أنه كائن إلهي، كان يسمى باليحموم. واليحموم قد تعني: المتعرّق: «قال ابن سيده: وتسميته باليحموم تحتمل وجهين: إما أن يكون من الحميم الذي هو العرق، وإما أن يكون من السواد كما سميت فرس أخرى حممة» (لسان العرب). ومن المحتمل أننا في الحقيقة مع فرس أسود متعرق في الحقيقة.
بناء عليه، ربما كان الأسبذ والسبد فرساً متعرقاً يمثل إلهاً شتوياً ما. وهذا الفرس- الإله هو أصل تسمية الأسبذيين باسمهم. لقد كانوا من عبّاده. أما نقش المسند اليمني، فقد جاء في ما يبدو بالدليل القاطع على وجود هذا الفرس/ الإله، مضيئاً لنا نقطة معتمة من ديانة العرب قبل الإسلام.

* شاعر فلسطيني