آلان باديو المولود عام ١٩٣٧ في المغرب، هو من دون شك أحد أبرز وجوه الفلسفة الماركسية المعاصرة في الوسط الثقافي الفرنسي والعالمي. «الماوي المثير للجلبة» في وسائل الإعلام، خصص منذ سنوات كتاباً لوصف «الرأسمالية البرلمانية» التي بمقابلها يدعو هو إلى إعادة إحياء «الفرضية الشيوعية». دخل في سجال عنيف مع آلان فيلكينكروت الفيلسوف المؤيد لإسرائيل عام ٢٠١٥ على صفحات «نوفيل اوبسرفاتور» حول حقوق الفلسطينيين والربط الآلي بين «المسألة اليهودية» في أوروبا وإسرائيل، مما سيؤدي برأيه إلى إبادة يهود أوروبا أنفسهم. اهتمامات صاحب «مديح الحب» و«نظرية في الذات» و«الكينونة والحدث»، تطال مروحة واسعة من المواضيع والإشكاليات الفكرية والثقافية والجمالية. في كتاب لباديو صدر عام ٢٠١٥ بعنوان «الأسود: بريق غياب اللون»، يعيدنا باديو إلى سؤال أول بديهي: من فينا لم يخض التجربة المرعبة بالمشي على رؤوس الأصابع في الليل الأسود؟ الاكتشاف السري لقارة اللون الأسود في المجلات الممنوعة، جمالية الحبر الأسود فوق الورق، ولكن أيضاً جماليات الكوزموس والثقوب السوداء، ووجع الحداد: يأخذنا الفيلسوف إلى مسرحه الحميم، الى قلب ذكرياته. الموسيقى، الرسم، الجنسانية والميتافيزيقا: لم يكن الأسود يوماً مضيئاً الى هذا الحد كما هو مع باديو. هنا مقتطف من الكتاب.في الإيروسية الغربية، يمثل اللون الأسود علامة لهِبة شيء ما: العري الأبيض، مثل «الورقة الفارغة» عند مالارميه، التي «يحميها البياض» من دمغها بالشعر. هي ليست إلا بياضاً هشاً، مفترضاً، بقدر ما هو موسوم بالأسود بالقوة. من ألفباء خلق المشهد ذي الغاية الإيروتيكية: ما من جسد قادر بذاته، في ظلام الرغبة، على التساوي بما يصنعه الجسد نفسه وقد شدَّ اللون الأسود عليه سرجَه. أربطة الساق والجوارب السفلية المثيرة تنتصر كلياً على المشهد، الذي يجعل من امرأة، بروعة وجلال، موضوعاً لكل الرغبات المتخيّلة.
العاري هو بالمحصلة النص المكتوب سلفاً الذي ما على الرغبة بفِعلها إلا أن تفك طلاسمه ـ هذا الفعل الذي يبدو مضحكاً نوعاً ما وأقل شأناً من الموضوع الذي يعالجه.
أليست هذه الكتابة السوداء فوق البشرة البيضاء ما كانت الرقابة تحاول أن تحجبه عن الصور بالأبيض والأسود للمجلات الشقية في طفولتي؟
في الأوقات القديمة من مراهقتي، لم نكن نعرف الشيء الكثير عن الجنس. كان ذلك بحق، كما يتردد القول حول الجنسانية الأنثوية حصراً، أو عن اللاوعي في الشخصية: «القارة السوداء».
وبالفعل، كانت مصادرنا في هذه المادة تقتصر على المجلات «المشبوهة» التي نشتريها لنخبئها تحت المعطف، والمعنونة (Frissons) أو (Extases)ـ أو بصورة أكثر دقة تحت سطوة اللغة الإنكليزية الصاعدة (Sexy Girls).
اليوم، نقرة صغيرة على لوحة المفاتيح في الكومبيوتر يمكنها أن تكشف لليافعين، باللون والحركة، عن كمية بعدد نجوم الفلك من العراة وشبه العراة ممن يتوزعون وفق تصنيفات تجارية صارمة كما هي الحال في السوبرماركت. في السابق، بالنسبة لذلك النوع من المنتجات الجنسية المغلّفة، كان الأمر أقرب للندرة، لا إلى الفائض. تعقيد إضافي أساسي كان من إرهاصات الرقابة التي لا تُمسّ في ما يتعلق بممنوعات ثلاثة. أولاً، كانت الرقابة تغض الطرف عن المجلات المشبوهة لكن تحت القاعدة الصارمة بأن لا تظهر هذه المجلات في الأكشاك التي ُتباع فيها رسمياً الصحف والمجلات. لذلك ومن أجل الحصول على الصور المشتهاة في (Sexy Girls)، المهتوكة الستر قليلاً أو كثيراً، كان الأمر يتطلب الكثير من المعارف، والحذر، ومبلغاً لا بأس به من المال. ثانياً، على الصور الأنثوية، كان العري مقبولاً، لكن ليس من الممكن له أن يتمدد إلى المواد والنقاط التي تكتسب القيمة الاستراتيجية بالنسبة إلى الرقابة العتيدة: كان يمكننا رؤية الأثداء، ولكن ليس الحلمات. كان محظوراً بأي شكل من الأشكال رؤية الزغب النسائي، سواء تعلق الأمر بالعانة أو تحت الإبطين. ثالثاً، طال الحظر كذلك صوَر العضو الذكري، منتصباً كان أو ليناً، أو حين تعوزه الحيوية. انبثَقت من هذه الممنوعات نتائج في غاية الأهمية، كلها تتعلق باللون الأسود.
أولا، الامتياز المعطى من قبل مجلاتنا للعري الأنثوي المستلقي على ظهره. بالنتيجة، من هذه الزاوية، لا شيء محظوراً، إذ لا حلمات هنا ولا زغب. لا عضو مذكر، إلا في حال وجود تركيبة شبحية نادرة. كان الأمر يترِك في منطقة الظل السرَّ الذي لا يُخترق للعضو المؤنث: «ماذا تخفي الفتيات تحت أثوابهن؟»، ليكون الجواب، في نهاية المطاف، أنه ليس بالشيء الاستثنائي، خاصة أن الجواب نفسه يبدو مستعصياً في حضور الصور الخلفية التي تظهر فوارق طفيفة عن صور الذكور، دون أن تكون أساسية. هكذا، من دون قصد، كانت الرقابة من تلقاء نفسها تشجع على السودومية أو تلك الوضعية المسماة more bestiarum من قبل بعض الكهنة المنحرفين. هذا لأنها تركت في الأسود النقطة - المفتاح للقارة السوداء.
ثانياً، حين كانت المجلات تعرض عرياً نسائياً يُنظر إليه من الأمام، ولو كانت الآنسة لا تلبس سروالاً داخلياً، كانت الرقابة تحرص (حيث يقوم المثلث الزَغبي الأسود بالضرورة في صورة بالأبيض والأسود) على بث الضباب فوق المثلث المذكور. الأسود الحقيقي كان يُستبدل بمنطقة بيضاء أو رمادية شاحبة، نوع من غمامة، كأنها مشدودة إلى ما بين سيقان السيدات، ترسو هناك بصورة بائسة في اللحظة التي تُلتَقط فيها الصورة (...) ولو أن هذا المثلث في الحقيقة كان أشقر أو مشرباً بحمرة، لقد كان ذلك الدغل مكللاً بالسواد، من دون أن نأخذ في الحسبان أنه فوق صوَر تلك المرحلة، كل ذلك كان ملتبساً في الفرضية القائمة للمثلث الشاحب. وهكذا، كان الأبيض يلغي الأسود، ومعه مرة أخرى، كل ولوج محتمل للسر الأنثوي. وكان هذا الأبيض من الغرابة أيضاً بحيث يطفو من الإبطين عند الجميلات العاريات، كأنه رزمة لينة من القطن المعقم، مما كان ليأخذ الالتباس إلى مداه الأقصى: ما هو إذا السر المستور تحت أذرع السيدات؟ يجب أيضاً القول إن غياب السراويل الداخلية كان نادراً، بحيث أن الأسود المتعلق بمثلث الزغب كان من صفحة لأخرى هو أكثر ما يدفع على الرغبة، لتتم في نهاية المطاف تجليته بالقدر نفسه الذي يتم فيه حجبه.
ما زالت صورة العري الأنثوي مادة لخيبة أمل نستشف من خلالها أن الجنسانية الأنثوية ما زالت في قلب «قارة سوداء»


لكن هنا أيضاً، كان ديالكتيك اللون الأسود يُظهر قوته التي لا تنضب. لأنه بنفس الحركة التطهيرية، في الموضع المفترض لما لا تجوز رؤيته، وبإخفائه لسواد العانة في العمق الأبيض للورق، كانت المجلة تضاعِف مراراً، على الجسد ذاته المحروم من أسوَده الفاسق، الأكسسواراتِ السفلية من نفس القماشة السوداء، من مشدات الخصر، والأحذية بالكعب العالي، وطلاء الأظافر، كل تلك الحلي الرخيصة للرغبة التي تعشق أن نخادعها. وهكذا دائماً، يمكننا القول، يعود الأسود، بحيث كان يكفي أن يتحرك لأشبار صغيرة، من أجل أن يكسب المعركة حين يتعلق الأمر بالرغبة، هازماً الأبيض الذي ينفيه.
أتذكر الرواية الملحمية، في إحدى تلك المجلات التي قرأتها في ركن مظلم لصالة الرياضةـ مكان ملائم!ـ للتمنع الذي أظهرته سيدة، تقع في الحب تدريجاً، أمام رجل ينجح في تجريدها من ثيابها، في حبكة مدعومة بالصور. أسلوب النص كان بسيطاً، لكنه كان حامياً إلى درجة أن السيدة حين تخلع آخر ملابسها، ينطق النص بعبارة حُفرت في ذاكرتي: «السروال الداخلي، آخر معاقل الحشمة التي تقاوم». لكن بعد أن تسقط تلك القلعة، تسقط أيضاً فوق أسود العضو الأنثوي غمامة الرقابة البيضاء. كان مستعصياً على أذهاننا أن نعوز تلك الكمية من الوقت والحيل لنتجاوز العقبة الجديدة والنهائية التي تقاوم رغبتنا في المعرفة.
اليوم، حيث الحَلق الكامل لمنطقة العانة أصبح عادة دارجة، صار الغياب الفعلي للون الأسود ـ ما يعيد العضو إلى منظره الطفولي ـ هو الذي يترك سر الاختلاف الجنسي في منطقة لا تُمَس.. اللون الأسود بامتياز هو اللون غير الملون للشغف الفيتيشي، الذي، كما نعرف منذ زمن فرويد، يلتمس فوق الجسد الأنثوي ذلك النقص الذي ظنت الطفولة البسيطة أنها قد أبصرته فيه. إنا لا نرغب في الواقعي إلا في الأسود محجوباً بالأبيض، يغيب الأسود إذن حين يجب أن يحضر وهكذا، بين الأسود المدموغ بالبياض للأعوام ١٩٥٠ والأسود الحليق اليوم، ما زالت صورة العري الأنثوي مادة لخيبة أمل نستشف من خلالها أن الجنسانية الأنثوية ما زالت هي أيضاً في قلب «قارة سوداء».

* المصدر: Le noir : Eclats d'une non-couleur منشورات Autrement ــــــ 2015