ما الفارق حقاً بين الذين تفجعهم كارثة تدمير الكتب والمكتبات والذين يلقون الكتب طواعية، بل وبابتهاج، في قلب النيران، وكيف تنسجم مُثل التقدم الإنساني مع العنف والتدمير واسع النطاق للثقافة اللذين ميّزا القرن العشرين؟ سؤالان مركزيان تطرحهما ربيكا نوث في كتابها «إبادة الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» (عالم المعرفة- الكويت، ترجمة عاطف سيد عثمان). تحاول الإجابة عن هذين السؤالين عبر مزج وقائع الإبادة الجماعية والإثنية مع حملات إبادة الكتب أو تدميرها بهدف تحقيق أهداف إيديولوجية في المقام الأول، تحقيقاً لفكرة النفي والإقصاء واستنزاف المستودع الفكري والروحي العالمي، وتقليص الإرث الثقافي للبشر: في عام 1987، نظّفت قوات في قاعدة تابعة للجيش السوفياتي في لتوانيا مستودعاً، وأُفرغ في حقل مجاور عدد كبير من الكتب النادرة التي نُهبت من مكتبة أحد النبلاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية. من بين هذه الكتب نسخة نفيسة من الكتاب المقدّس، وخرائط قديمة، ومجلد يضم رباعيات وترية تحمل إهداء موزارت إلى هايدن. بعد مرور عام، تعرّضت هذه المقتنيات للمطر والثلوج، فطلب أمناء مكتبة لتوانيون السماح لهم بإنقاذ الكتب. كان ردّ الضابط: «خذوها، ليست إلا كومة نفايات». هذه إحدى الحكايات التي ترويها ربيكا نوث عن أصناف الإبادة، والعنف الثقافي، خصوصاً في البلدان التي شهدت حروباً أهلية، فقد كانت الكتب والمكتبات هدفاً أساسياً لاستكمال عمليات الإبادة الجماعية، بوصفها أرواحاً حيّة، وبدا تدمير المكتبات هدفاً استراتيجياً في حروب القرن العشرين لمحو هوية العدو وكسر إرادة المقاومة لديه. هكذا محا الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى، مكتبة لوفين في بلجيكا، في حريق امتد إلى ستة أيام، كما دمّروا المدينة القروسطية ومخطوطاتها التي تربو على 750 مخطوطاً قروسطياً، وأعادوا إحراق المكتبة نفسها ـــ بعد إعادة إعمارها ــــ في الحرب العالمية الثانية. وبالتوازي مع صعود النزعة النازية، أُحرقت ونُهبت عشرات المكتبات في أوروبا الشرقية، فيما كان جوزيف غوبلز يحتفل منتصراً «ها هو الماضي يحترق». وتشير الباحثة إلى أن الشيوعية لم تكن أقل همجية من الحركات القومية المتطرّفة تجاه الموارد الفكرية. فالتاريخ يبدأ من الثورة، أو كما يقول ماركس «تراث جميع الأجيال البائدة مثل كابوس يلقي بثقله على عقول الأحياء». وفي عهد ستالين، كان تطهير الكتب يضاهي حملات التطهير الجماعية للأعداء السياسيين: «كان النظام الستاليني يتخلّص من الأشخاص، وكان يتعيّن إخفاء كل شيء يمتُّ لهم بصلة بما في ذلك كل كلمة كتبوها. كتبهم صارت كتباً لم تُسطّر، مثلما صاروا أشخاصاً لم يولدوا بعد». وستستهدف الرقابة الصارمة كتب ستالين نفسه، بعد موته.
محا الألمان أثناء الحرب العالمية، مكتبة لوفين في بلجيكا

بتفكّك يوغسلافيا وتخليها عن الشيوعية، حدثت فظائع لا تغتفر، محمولة على رافعة الجنون القومي والعنصرية والتطرّف، خصوصاً لدى الصرب والكروات، فكانت المعالم الثقافية مثل الكنائس والمكتبات أهدافاً عسكرية، ومحاولة وحشية لنزع الهوية عن المكان. دمّر الصرب نحو 210 مكتبات كرواتية، و370 متحفاً ودار محفوظات، وقصف الجيش الصربي مدناً أثرية، وأُضرمت النيران في «مكتبة تاون ميوزيام»، وقلعة «إلتس» القديمة، وبلغ العنف أقصاه ضد البوسنة ضمن خطة محكمة لمحو الثقافة الإسلامية، وإعدام صفوة المفكرين فيها، ودُمرت المقابر والأضرحة والمكتبة الوطنية، والمعهد الشرقي في سراييفو الذي يضم مخطوطات إسلامية ووثائق عثمانية وصكوكاً ملكية: «كان هناك أسلوب حياة كامل، وحضارة بكاملها في قلب أوروبا يخضعان لبرنامج إبادة» تقول الباحثة.
أثناء غزو العراق للكويت (1991)، استُخدمت المكتبات ومراكز المعلومات والمدارس كمراكز قيادة ومستودعات ذخيرة، ودُمّر نحو 43 في المئة من مخزون الكتب في المكتبات المدرسية، وأتلفت آلاف الكتب، كما شُحنت كتب أخرى إلى بغداد، واستخدم جزء منها كوقود للطهي، وأُحرق المتحف الكويت بعد نهب محتوياته. وتوثّق ربيكا نوث وقائع الجرائم الثقافية التي ارتكبها صدام حسين في العراق في ظل ايديولوجيا بعثية استبدادية «كانت وهمية وخيالية ومتلوّنة ونفعية»، أودت بحياة مئات المفكرين والأكاديميين الذين لم يمتثلوا للفكر البعثي، وفي الوقت نفسه طُهرت مجموعات من الكتب التي تحمل وجهات نظر مخالفة، ورُصد تمويل سخي للمؤرخين الذين انخرطوا في كتابة نصوص داعمة لأفكار صدّام حسين حيال صورة العراق الجديد: مزيج من الاعتزاز بالحضارة البابلية والفولكلور الشعبي المعاصر.
من جهتها، أفرزت «الثورة الثقافية الصينية» كوارث لا تحصى. بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة (1949)، صارت إبادة الكتب حملة داخلية ومتواصلة، يجيزها القادة الذين طالبوا بأن تمتثل كتب الصين ومفكروها وتقاليدها الثقافية للآراء القويمة للحزب وزعيمه ماو تسي تونغ «موجِّه الدفة العظيم» وصار «الكتاب الأحمر الصغير» نصّاً مقدّساً يدرسه الشعب بأكمله، ويحمله كأنه تميمة. هكذا طُهرت المكتبات من «المنشورات الرجعية والفاحشة والعبثية»، فلجأ الكتّاب الصينيون إلى «التملّص الذهني»، أو إلى الصمت، وشُنَّت أقسى الحملات ضد المفكرين بتهمة الرجعية (أُعدم نحو 46 ألف مفكّر)، وأُحرقت الكتب والصور السيئة «وفي النهاية أشعل الحرس الأحمر النيران في الكتب التي شكّلت جبلاً صغيراً». يروي أحد الكتّاب الصينيين المجهولين ذكرياته قائلاً: «أحرقتُ جميع كتبي ومخطوطاتي، لكن الكتاب الذي أعمل على إنجازه، صار حياتي، فكيف كان لي أن أدعه يضيع؟ وعلى الرغم من أنهم أحرقوا مكتبتي وأوراقي، فإنهم لم يحرقوا ذاكرتي، فبدأت أكتب سرّاً، مستدعياً الكلمات التي اخترتها من قبل، وخبأت الصفحات في لحافي».
نطوي صفحات هذا الكتاب المفزع، ونحن نتخيّل حريقاً هائلاً يقترب نحونا تقوده محاكم تفتيش جديدة، لكننا سنتساءل: لماذا تجاهلت ربيكا نوث ما فعلته إسرائيل بالتراث الثقافي الفلسطيني طوال نصف قرن، ألم يكن نوعاً من الإبادة النموذجية؟ لعله الفصل الممحو عمداً من هذا الكتاب.