1
عبد الفتاح كيليطو... حمّال الحكايا | بما أنّي نشرت القليل من النصوص التخييليّة، فحصّة الدراسة، نسبيّاً، أكثر تمثيلاً بين كتاباتي؛ لكن، في ما يخصّني، لا أرى أبداً فرقاً بين النوعين: بالمرور من العين والإبرة إلى حصان نيتشه، لا ينطبع لديّ أنني بدّلت جوهريّاً السجل الكتابي. في هذا الصدد، تلاحظ ميريلا كاسارينو، التي نقلتني للإيطاليّة، أنّه في كلتا الحالتين، ثمّة «نصّ ينساب من مزيج الكتابة والقراءة» لي أن أضيف: الانفعال. [كلمة الغلاف الأخير لـ«حصان نيتشه»، 2007.]
2

دراسات كيليطو متخفّفة من قوائم المراجع، لكنّ مرجعيّاته شفيفة لمن ألِف قراءته. ولربّما كان بورخص أهمَّها. فما يَشْغَفهما حبّاً كثيرٌ: «ألْف ليلة وليلة»، الكتب والمكتبات كذاكرةٍ وكَحاملٍ مَادّي، عشْقُ التّأتأة والبلبلة بين الألسن، اللعب بالأجناس الكتابية خلطاً ومحاكاةً ساخرةً.
وعليه سنلعب هذه اللعبة: لكيليطو نصّ نقديّ بعنوان «بورخيس العربيّ». ماذا لو صارت الدراسة النقدية مقالة في السيرة [لبورخص سيرة وجيزة بعنوان «مقالة في السيرة»]؟ أفَلا يكون كيليطو هو بورخص العربي؟
3

في أحدث كتبه، «نبحث عنه وهو مقيم بالجوار: عشر حكايات»، يخاتلنا الكاتب عند دفَّة الكتاب، بتجنيسه ضمن نوع الحكاية. فهذه الحكايات العشر لا يمكن إلّا أن نستعيد بها نصّاً يرد بكثرة في كتابات كيليطو: «عشرة زنوج صغار» لآغاتا كريستي. وأنت تستعدّ لتلج الكتاب، ما عليك إلّا أن توقظ حواسّك وأفهامك قبالة ما يشبه حكايةً بوليسيّة يحاول فيها كلٌّ منَ السرد وقراءته النقديّة أن يجهزا على بعضيهما؛ فليس من قبيل الصدفة أن تحضر ثيمة الموت كقيمة مهيمنة في متن الكتاب. بين موت المؤلّف [بارت]، غفْليّته، وموت الحكواتي [فالتر بنيامين] عَثَرَ كيليطو على موضِع وصوت جمع فيهما شغفه بتأليف السّرد وقراءته.
4

في «حفريّات» كيليطو حفر عميق في التراثين السّرديّين العربي والأوروبي، الوجيز منهما تحديداً، سيراً على منوال ما بتّ من أخبار اختلط فيها الغرائبيّ بالواقعيّ في المنتخبات الأدبيّة على شاكلة «خزانة الأدب» للبغداديّ و«الأغاني» للأصفهانيّ. كما لا تغيب عن بعضها محاكاة كافكا الساخرة للميثولوجيا الإغريقيّة في محكيّاته الشذريّة الصغيرة المبثوثة في يوميّاته ورواياته غير المكتملة.
5

درس كيليطو: لا سرد دون حاشية نقديّة، ولا نقد دون أقواس سرديّة على شاكلة ديدرو و«تريستام شانداي». بينهما شغف القراءة والكتابة في ليل شهرزاد

«السيدة ذات الخواتم»: محفورة لروبرت سميرك، ضمن طبعة «الليالي» في 5 مجلدات بترجمة إدوارد فورستر، لندن، 1802

شهرزاد الأولى
مخدوعين من طرف زوجتيهما، يغادر الملك شهريار وأخوه شاه زمان القصر ويشرعان في سفرة حتّى ينظرا هل جرى لأحد مثلهما. وعندما بلغا جانب البحر، إذا بجنّيّ طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر والقامة على رأسه صندوقٌ بلّورٌ، فتحه وأخرج منه علبة ثمّ فتحها فخرجتْ منها صبيّة غرّاء بهيّة كأنّها شمس مضيئة.
فتْح صندوق يخبّئ، في الحقيقة، مفاجآت كثيرة؛ فقد نجد فيه كنزاً، بالأحرى امرأة. يمكن أيضاً أن تَنْطَمِرَ فيه كلّ شرور البشر. «الليالي» علبة پاندورا.
لمّا خافا، طلع شهريار وشاه زمان إلى أعلى شجرة عالية واختبآ بين أوراقها، بينما وضع الجنّيّ، متعباً، رأسه على ركبتي مخطوفته ونام. ولمّا رفعت رأسها إلى أعلى الشجرة، رأت الملكين وقالت لهما بالإشارة: انزلا وإلّا نبّهت عليكما العفريت وقالتْ: ارصعا رصعاً عنيفاً. وأخرجت لهما من جيبها كيساً، أخرجت لهما منه عقْداً فيه ثمانية وتسعون خاتماً، فقالت لهما: أصحاب هذه الخواتم كلّهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فاعطياني خاتميكما.
في ما يبدو تبريراً لسلوكها، تخبرهما أنّ العفريت قد اختطفها ليلة عرسها، «ولم يعلم أنّ المرأة منّا إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء». كذا هو مختتم حكايتها.
التماثل بين الجنّيّ وشهريار ملحوظ بوضوح، كما هو بين الصندوقِ البلّوْرِ والقصْرِ. فالفرجة المقدّمة للمسافرين مرآة يتأمّلان فيها قدرهما. علينا ألّا ننسى أنّ الأمر يتعلّق هنا بالحكاية الأولى من «الليالي»، طبعاً بعد حكاية البليّة التي أصابت الشّقيقين. إنّها قصّة من خارج «ألف ليلة وليلة»، ومن المحتّم علينا ملاحظة أنّ الصبيّة هي الحاكية الأولى في هذا الكتاب. متقدّمةً شهرزاد، التي لن تظهر إلّا في ما بعد، تستهلّ الصبيّة متواليةَ الحكايات. هنا تتبيّن — لِنَقُلْها عابرين — مهارة الكاتب الغُفلِ لـ«الليالي»، وتحرّياً للدقّة، مهارة الكتّاب الذين حاكوا هاته الحكاية الفريدة وهم يَتَفَكَّرون معْمارَ الكِتاب، تركيبته المشكّلة من متاهات ومطبّات ومنعطفات. الصّبيّة تُعِدُّ لظهور شهرزاد وتعلن بطريقة مرهفة عن المبنى والمعنى الذي سيكون عليه الكتاب: خواتم في كيس.
مئة خاتم في كيس الصّبيّة، خمسمئة واثنان وفق صنعة جوزف - شارل ماردروس لـ«الليالي». هي ليست بالألف، لكنّ تعدادها ماشٍ صوب الألف. ثمّة تركيز على العدد الهائل للخواتم، الذي لا يمكن المرور عليه دون أن يذكّرنا بملاحظة أخّاذة لبورخص: «عندما تقول: «ألف ليلة»، فأنت تتحدّث عن عدد لانهائيّ من الليالي، عن ليال عديدة، لا تعدّ. عندما تقول: «ألف ليلة»، فذلك إضافة ليلة للانهائيّة الليالي. من جهتها، تضيف الصبيّة لتشكيلةِ خواتمها خاتمي شهريار وشاه زمان، وحدتان إذناً ضمن لانهائيّة الخواتم.
بالتّالي، ومنذ البداية، مع مفتتح الكتاب، تعطي الخواتم تمثّلاً مسبّقاً لليالي التي لا تعدّ ولا تحصى، التي ستنشطها شهرزاد. تمتلك الصبية الأسيرة [سيبقى اسمها غفْلاً] ألف خاتم، كما شهرزاد ألف حكاية. لنلحظ، نسجاً على نفس المنوال، الحضور الطّاغي للتخفّي والانختام: الشقيقان يتخفّيان وسط ورق الشجر، للصندوق البلّور — في تضارب لنسخ وطبعات «الليالي» — أربعة أو سبعة أقْفال، الصبيّة في علبة، العلبة في صندوق، الصندوق في البحر.. أفلا يحيل كلّ هذا على كتاب «الليالي»، على حكاياته التي تحوي حكايات أخرى تندرج ضمنها أخريات، وهكذا دواليك؟
تشير الصبيّة إلى اختطافها، لكنّها لا تحكي مغامراتها مع الألف عشيق وعشيق. لمن ستحكيها، بعد كلّ هذا؟ للشقيقين، اللذين ماتا خوفاً؟ لا هي ولا هما يتوفّران على الزمن اللازم لذلك؟ أتحكيه للجنّي الرّهيب؟ مستحيل. ما قد تستطيع حكايته يبدو شبيهاً بكتاب لم يكْتب بعد، لكنّ بذرته رغم ذلك كامنة في حكايتها. ربّما كان — إنْ تفكّرنا مليّاً في الأمر — هذا الكتاب بالذات الذي يحوي حكايات شهرزاد.
[نبْحث عنْه وهو مقيم بالجوار: عشر حكايات، 2018، ص. ص. 7-10.]
نرثي لحال قيس، مجنون ليلى، لكنّنا ننسى أنّ الأمر كان لديه خياراً طوعيّاً


أربع منمْنمات

1. تشْكيل
اسْتطْعم آدم للتّوّ الفاكهة المحرّمة؛ قضم التفّاحة وصار محكوماً بتدويرها في فمه. فمه الفاغر مرّ. ضخامة التفّاحة على قدر جسامة غلطته.
ثمّة، بنفس لون التفّاحة، زهرة. إنْ تمعّنت فيها، تراءت لك الزهرة وجهاً. وجْه منْ؟
سيزيف، الذي نختزله عموماً، وبإجحاف، في صخرة صلدة، كان رجلاً داهية، بالغ الدّهاء حتّى إنّ ناثري الأخباريّين الإغريق ادّعوا أنّه كان أبا عوليس. متعرّجاً، ملتوياً، متاهياً، يستدعي الدّهاء الشّرك، الزّمام، العقدة. وتروي الوقائع أنّ سيزيف توفّق في تصفيد ثاناتوس الذي أتى للسير به إلى مملكة الأموات. إنّه الفاني الوحيد الذي توفّق في هذه المأثرة الخارقة: مخاتلة الموت، إيقاعها في الفخّ، حدّها في عجزها، حتّى إنّ الآلهة الخالدة، الغيرانة على امتيازها، هبّت لنجدته وخلّصته.
في زاوية من التفاحة، سنجاب... بل شيطان صغير... أو بالأحرى طير. طير لا يكترث بآلام آدم - سيزيف وبالحمولة الرمزيّة لهذه اللوحة. كما لا يكترث بالمتفرّج.

2. المعطف الأسود
بعدما قتل المينوطور، توفّق ثسيوس في الخروج من المتاهة بفضل خيط أريان — أريان التي هجرها [يا للعاقّ!] في جزيرة مقفرة.
المتاهة، الآن، خلاء يعمّها الصمت. لكنّ طيف المينوطور يهيم فيها، مجرّداً من كلّ عزاء ووعيد. الخلاص طموحه الوحيد، لكنّه لم يجد سبيلاً لمغادرة هذا المكان النحس وبلوغ مملكة الأموات. هكذا إذاً، يواصل الطيف هيمانه، دونما راحة، في معضلة دونما حلّ. بين الفينة والأخرى، يتعثّر بأطياف أخرى، أطياف ضحاياه.
فوق جبل الأولمپ، بمناسبة مأدبة، وجّهت الآلهة مجتمعة كلامها لثاناتوس، مسائلة إيّاه لم يسر بالمينوطور نحو العالم السفليّ للجحيم. مشتملاً في معطفه الأسود، غضّ ثاناتوس بصره خجلان ولم يجب. فما كان من الآلهة إلّا أن اصطخبتْ في موجة قهقهات عارمة. لقدْ أدركوا لم: لم يذهبْ إله الموت بحثاً عن طيف المينوطور لأنّه كان مرتعباً ألّا يستطيع مغادرة المتاهة وأن يبقى حبيسها للأبد.

3. مجاز
القصيدة، كما قال الشعراء القدامى، شرودٌ: لا ندري أين سيتوقّف بها المسير. ضائعة في الشساعة الصّحراويّة، تتيه بحثاً عن أهلها، بين الدواب والإنس، لكنّ عثورها عليهم ليس أكيداً. ذات يوم، يستقبل مجهولون اليتيمة، يؤوونها وتقضي معهم بقيّة أيّامها. إلّا إن شردت من جديد. أليس قدر القصيدة أن تتيه، أن تكون أينما حلّت غريبة؟
هذا ما كان يدركه شاعر الصحراء العربيّ. لكنّه كان يظنّ أنّ قصائده لنْ تُقْرَأَ أبدا إلّا بالعربيّة. كان بعيداً عن الارتياب في أنّ نوقه، قروناً في ما بعد، ستبلغ مدناً لم تكن لديه عنها أدنى فكرة: برلين، پاريس، لندن، نيويورك. مترجمة، محشّاة، مؤوّلة، صارت منذ الآن تتكلّم لغات غريبة. مع مرّ الزّمان، لربّما نسيت ذات يوم لسانها الأصليّ.

4. مجنون ليْلى
نرثي لحال قيس، مجنون ليلى، نتحسّر على مصيره، لكننا ننسى أنّ الأمر كان لديه خياراً طوعيّاً. كان متيّماً بليلى، ابنة عمّه وكان للقصّة أن تنتهي بتفاهة زواج، لو تمنّع، كما كانت تقتضي أعراف العصر، عن التغنّي بحبّه وذكر حبيبته بالاسم. غير قادر على الكتمان، لم يقاوم غواية إنشاد أشعاره. فهو رغم ذلك لم يكن يجهل أنّه، بإذاعتها، كان ينتهك محرّماً ويفقد ليلى نهائيّاً. فما القصد من كلّ هذا، سوى أنّ حبّ الشّعر كان لديه أقوى من حبّه لليلى؟ في سياق آخر، يؤكّد الجاحظ — في عبارة فظيعة — : ولذلك تجد فتنة الرّجل بشعره وفتنته بكلامه وكتبه فوق فتنته بجميع نعمته.
[حفريّات: اثنتا عشْرة منمْنمة]